فصل: بَابُ الْأَوْلِيَاءِ وَالْأَكْفَاءِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير للعاجز الفقير



.بَابُ الْأَوْلِيَاءِ وَالْأَكْفَاءِ:

(وَيَنْعَقِدُ نِكَاحُ الْحُرَّةِ الْعَاقِلَةِ الْبَالِغَةِ بِرِضَاهَا) وَإِنْ لَمْ يَعْقِدْ عَلَيْهَا وَلِيٌّ بِكْرًا كَانَتْ أَوْ ثَيِّبًا (عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ) رَحِمَهُمَا اللَّهُ (فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ) رَحِمَهُ اللَّهُ (أَنَّهُ لَا يَنْعَقِدُ إلَّا بِوَلِيٍّ. وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَنْعَقِدُ وُقُوفًا) وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِعِبَارَةِ النِّسَاءِ أَصْلًا لِأَنَّ النِّكَاحَ يُرَادُ لِمَقَاصِدِهِ وَالتَّفْوِيضُ إلَيْهِنَّ مُخِلٌّ بِهَا، إلَّا أَنَّ مُحَمَّدًا رَحِمَهُ اللَّهُ يَقول: يَرْتَفِعُ الْخَلَلُ بِإِجَازَةِ الْوَلِيِّ. وَوَجْهُ الْجَوَازِ أَنَّهَا تَصَرَّفَتْ فِي خَالِصِ حَقِّهَا وَهِيَ مِنْ أَهْلِهِ لِكَوْنِهَا عَاقِلَةً مُمَيِّزَةً وَلِهَذَا كَانَ لَهَا التَّصَرُّفُ فِي الْمَالِ وَلَهَا اخْتِيَارُ الْأَزْوَاجِ، وَإِنَّمَا يُطَالَبُ الْوَلِيُّ بِالتَّزْوِيجِ كَيْ لَا تُنْسَبَ إلَى الْوَقَاحَةِ، ثُمَّ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْكُفْءِ وَغَيْرِ الْكُفْءِ وَلَكِنْ لِلْوَلِيِّ الِاعْتِرَاضُ فِي غَيْرِ الْكُفْءِ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي غَيْرِ الْكُفْءِ لِأَنَّ كَمْ مِنْ وَاقِعٍ لَا يَرْفَعُ. وَيُرْوَى رُجُوعُ مُحَمَّدٍ إلَى قولهِمَا.
الشَّرْحُ:
(بَابُ الْأَوْلِيَاءِ وَالْأَكْفَاءِ) أُولَى الشَّرَائِطِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا غَالِبًا الشَّرْطُ الْمُخْتَلَفُ فِيهِ وَهُوَ عَقْدُ الْوَلِيِّ. وَالْوَلِيُّ الْعَاقِلُ الْبَالِغُ الْوَارِثُ، فَخَرَجَ الصَّبِيُّ وَالْمَعْتُوهُ وَالْعَبْدُ وَالْكَافِرُ عَلَى الْمُسْلِمَةِ. الْوِلَايَةُ فِي النِّكَاحِ نَوْعَانِ: وِلَايَةُ نَدْبٍ وَاسْتِحْبَابٍ وَهُوَ الْوِلَايَةُ عَلَى الْبَالِغَةِ الْعَاقِلَةِ بِكْرًا كَانَتْ أَوْ ثَيِّبًا، وَوِلَايَةُ إجْبَارٍ وَهُوَ الْوِلَايَةُ عَلَى الصَّغِيرَةِ بِكْرًا كَانَتْ أَوْ ثَيِّبًا، وَكَذَا الْكَبِيرَةُ الْمَعْتُوهَةُ وَالْمَرْقُوقَةُ. وَتَثْبُتُ الْوِلَايَةُ بِأَسْبَابٍ أَرْبَعَةٍ: بِالْقَرَابَةِ، وَالْمِلْكِ، وَالْوَلَاءِ، وَالْإِمَامَةِ. وَافْتَتَحَ الْبَابَ بِالْوِلَايَةِ الْمَنْدُوبَةِ نَفْيًا لِوُجُوبِهَا؛ لِأَنَّهُ أَمْرٌ مُهِمٌّ لِاشْتِهَارِ الْوُجُوبِ فِي بَعْضِ الدِّيَارِ وَكَثْرَةِ الرِّوَايَاتِ عَنْ الْأَصْحَابِ فِيهِ وَاخْتِلَافِهَا. وَحَاصِلُ مَا عَنْ عُلَمَائِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ فِي ذَلِكَ سَبْعُ رِوَايَاتٍ: رِوَايَتَانِ: عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ تَجُوزُ مُبَاشَرَةُ الْبَالِغَةِ الْعَاقِلَةِ عَقْدَ نِكَاحِهَا وَنِكَاحَ غَيْرِهَا مُطْلَقًا إلَّا أَنَّهُ خِلَافُ الْمُسْتَحَبِّ وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ، وَرِوَايَةُ الْحَسَنِ عَنْهُ إنْ عَقَدَتْ مَعَ كُفْءٍ جَازَ وَمَعَ غَيْرِهِ لَا يَصِحُّ، وَاخْتِيرَتْ لِلْفَتْوَى لِمَا ذُكِرَ أَنَّ كَمْ مِنْ وَاقِعٍ لَا يُرْفَعُ وَلَيْسَ كُلُّ وَلِيٍّ يُحْسِنُ الْمُرَافَعَةَ وَالْخُصُومَةَ وَلَا كُلُّ قَاضٍ يَعْدِلُ، وَلَوْ أَحْسَنَ الْوَلِيُّ وَعَدَلَ الْقَاضِي فَقَدْ يَتْرُكُ أَنَفَةً لِلتَّرَدُّدِ عَلَى أَبْوَابِ الْحُكَّامِ وَاسْتِثْقَالًا لِنَفْسِ الْخُصُومَاتِ فَيَتَقَرَّرُ الضَّرَرُ فَكَانَ مَنْعُهُ دَفْعًا لَهُ. وَيَنْبَغِي أَنْ يُقَيِّدَ عَدَمَ الصِّحَّةِ الْمُفْتَى بِهِ بِمَا إذَا كَانَ لَهَا أَوْلِيَاءُ أَحْيَاءٌ؛ لِأَنَّ عَدَمَ الصِّحَّةِ إنَّمَا كَانَ عَلَى مَا وَجَّهَ بِهِ هَذِهِ الرِّوَايَةَ دَفْعًا لِضَرَرِهِمْ فَإِنَّهُ قَدْ يَتَقَرَّرُ لِمَا ذَكَرْنَا، أَمَّا مَا يَرْجِعُ إلَى حَقِّهَا فَقَدْ سَقَطَ بِرِضَاهَا بِغَيْرِ الْكُفْءِ عَلَى مَا سَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي فَصْلِ الْكَفَاءَةِ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ: لَا يَجُوزُ مُطْلَقًا إذَا كَانَ لَهَا وَلِيٌّ ثُمَّ رَجَعَ إلَى الْجَوَازِ مِنْ الْكُفْءِ لَا مِنْ غَيْرِهِ، ثُمَّ رَجَعَ إلَى الْجَوَازِ مُطْلَقًا مِنْ الْكُفْءِ وَغَيْرِهِ. وَرِوَايَتَانِ عَنْ مُحَمَّدٍ: انْعِقَادُهُ مَوْقُوفًا عَلَى إجَازَةِ الْوَلِيِّ إنْ أَجَازَهُ نَفَذَ وَإِلَّا بَطَلَ، إلَّا أَنَّهُ إذَا كَانَ كُفْئًا وَامْتَنَعَ الْوَلِيُّ يُجَدِّدُ الْقَاضِي الْعَقْدَ وَلَا يَلْتَفِتُ إلَيْهِ. وَرِوَايَةُ رُجُوعِهِ إلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ. فَتَحَصَّلَ أَنَّ الثَّابِتَ الْآنَ هُوَ اتِّفَاقُ الثَّلَاثَةِ عَلَى الْجَوَازِ مُطْلَقًا مِنْ الْكُفْءِ وَغَيْرِهِ، هَذَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ عَنْ أَبِي يُوسُفَ مِنْ تَرْتِيبِ الرِّوَايَاتِ عَنْهُ وَهُوَ مَا ذَكَرَهُ السَّرَخْسِيُّ، وَأَمَّا عَلَى مَا ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ مِنْ أَنَّ قولهُ الْمَرْجُوعُ إلَيْهِ عَدَمُ الْجَوَازِ إلَّا بِوَلِيٍّ، وَكَذَا الْكَرْخِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ حَيْثُ قَالَ: وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا يَجُوزُ إلَّا بِوَلِيٍّ وَهُوَ قولهُ الْأَخِيرُ فَلَا، وَرُجِّحَ قول الشَّيْخَيْنِ؛ لِأَنَّهُمَا أَقْدَمُ وَأَعْرَفُ بِمَذَاهِبِ أَصْحَابِنَا، لَكِنَّ ظَاهِرَ الْهِدَايَةِ اعْتِبَارُ مَا نَقَلَهُ السَّرَخْسِيُّ وَالتَّعْوِيلُ عَلَيْهِ حَيْثُ قَالَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ إلَخْ. وَعَلَى الْمُخْتَارِ لِلْفَتْوَى لَوْ زَوَّجَتْ الْمُطَلَّقَةُ ثَلَاثًا نَفْسَهَا بِغَيْرِ كُفْءٍ وَدَخَلَ بِهَا لَا تَحِلُّ لِلْأَوَّلِ، قَالُوا: يَنْبَغِي أَنْ تُحْفَظَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فَإِنَّ الْمُحَلِّلَ فِي الْغَالِبِ يَكُونُ غَيْرَ كُفْءٍ. وَأَمَّا لَوْ بَاشَرَ الْوَلِيُّ عَقْدَ الْمُحَلِّلِ فَإِنَّهَا تَحِلُّ لِلْأَوَّلِ، وَإِذَا جَازَ مِنْ غَيْرِ الْكُفْءِ عَلَى ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ فَلِلْوَلِيِّ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا نَذْكُرُهُ فِي فَصْلِ الْكَفَاءَةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَا يَنْعَقِدُ بِعِبَارَةِ النِّسَاءِ أَصْلًا أَصِيلَةً كَانَتْ أَوْ وَكِيلَةً.
قولهُ: (لِأَنَّ النِّكَاحَ) شُرُوعٌ فِي الِاسْتِدْلَالِ لِقول الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ، وَهُوَ أَنَّ النِّكَاحَ لَا يُرَادُ لِذَاتِهِ بَلْ لِمَقَاصِدِهِ مِنْ السَّكَنِ وَالِاسْتِقْرَارِ لِتَحْصِيلِ النَّسْلِ وَتَرْبِيَتِهِ وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ مَعَ كُلِّ زَوْجٍ، وَالتَّفْوِيضُ إلَيْهِنَّ مُخِلٌّ بِهَذِهِ الْمَقَاصِدِ؛ لِأَنَّهُنَّ سَرِيعَاتُ الِاغْتِرَارِ سَيِّئَاتُ الِاخْتِيَارِ فَيَخْتَرْنَ مَنْ لَا يَصْلُحُ خُصُوصًا عِنْدَ غَلَبَةِ الشَّهْوَةِ وَهُوَ غَالِبُ أَحْوَالِهِنَّ، فَصَارَتْ الْأُنُوثَةُ مَظِنَّةَ قُصُورِ الرَّأْيِ لِمَا غَلَبَ عَلَى طَبْعِهِنَّ مِمَّا ذَكَرْنَا، فَاسْتَلْزَمَ هَذَا التَّقْرِيرُ كَوْنَ عِلَّةِ ثُبُوتِ الْوِلَايَةِ فِي النِّكَاحِ الْأُنُوثَةَ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ قَاصِرٌ عَنْ عُمُومِ الدَّعْوَى فَإِنَّهَا لَوْ عَقَدَتْ بِإِذْنِ الْوَلِيِّ لَهَا فِي رَجُلٍ مُعَيَّنٍ كَقول مُحَمَّدٍ لَا يَصِحُّ عِنْدَهُمْ، وَالْوَجْهُ الْمَذْكُورُ لَا يَشْمَلُهُ، وَنَحْنُ نَمْنَعُ عِلِّيَّةَ الْأُنُوثَةِ، وَنَهْيُهَا عَنْ الْمُبَاشَرَةِ نَدْبٌ كَيْ لَا تُنْسَبَ إلَى الْوَقَاحَةِ، بَلْ الْعِلَّةُ لَيْسَتْ إلَّا الصِّغَرُ عَلَى مَا سَنُبَيِّنُ، وَالْمَفْسَدَةُ الْمَذْكُورَةُ لَيْسَتْ لَازِمَةً لِمُبَاشَرَتِهَا وَلَا غَالِبَةً، وَلَا يُنَاطُ الْحُكْمُ بِالْأُنُوثَةِ إذْ لَيْسَتْ مَلْزُومَةً دَائِمًا وَلَا غَالِبًا كَمَا هُوَ شَأْنُ الْمَظِنَّةِ، وَمُجَرَّدُ الْوُقُوعِ أَحْيَانَا لَا يُوجِبُ الْمَظِنَّةَ، وَإِذَا وُجِدَ فَلِلْوَلِيِّ رَفْعُهُ، وَكَوْنُ وَلِيٍّ يَحْتَشِمُ عَنْ ذَلِكَ قَلِيلٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَنْ يَقُومُ فِي دَفْعِ الْعَارِ الْمُسْتَمِرِّ عَنْ نَفْسِهِ، فَوُقُوعُ الْمَفْسَدَةِ قَلِيلٌ وَتَقْرِيرُهَا بَعْدَ وُقُوعِهَا قَلِيلٌ فِي قَلِيلٍ فَانْتَفَتْ الْمَظِنَّةُ، وَبَقِيَ أَنَّهَا تَصَرَّفَتْ فِي خَالِصِ حَقِّهَا وَهِيَ مِنْ أَهْلِهِ لِكَوْنِهَا عَاقِلَةً بَالِغَةً، وَلِهَذَا كَانَ لَهَا اخْتِيَارُ الْأَزْوَاجِ فَلَا تُزَوَّجُ مِمَّنْ لَا تَرْضَاهُ. ثُمَّ اسْتَشْعَرَ أَنْ يُورِدَ عَلَيْهِ مَنْعَ أَنَّهُ خَالِصُ حَقِّهَا وَإِلَّا لَمْ يُطَالِبْ الْوَلِيَّ بِهِ. فَأَجَابَ بِأَنَّهُ إنَّمَا يُطَالِبُ الْوَلِيَّ بِهِ كَيْ لَا تُنْسَبَ إلَى الْوَقَاحَةِ. وَهَذَا كَلَامٌ عَلَى السَّنَدِ وَهُوَ غَيْرُ مُفِيدٍ إلَّا لَوْ سَاوَى وَهُوَ مُنْتَفٍ، فَإِنَّ لَهُ أَدِلَّةً أُخْرَى سَمْعِيَّةً هِيَ الْمُعَوَّلُ عَلَيْهَا وَهِيَ قوله تَعَالَى: {فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} نَهَى الْأَوْلِيَاءَ عَنْ مَنْعِهِنَّ مِنْ نِكَاحِ مَنْ يَخْتَرْنَهُ، وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ الْمَنْعُ مِمَّنْ فِي يَدِهِ الْمَمْنُوعُ وَهُوَ الْإِنْكَاحُ، وَمَا فِي السُّنَنِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: «أَيُّمَا امْرَأَةٍ أَنْكَحَتْ نَفْسَهَا بِغَيْرِ إذْنِ وَلِيِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ» حَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ. وَقولهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَأَحَادِيثُ أُخَرُ فِي ذَلِكَ. وَالْجَوَابُ أَمَّا الْآيَةُ فَمَعْنَاهَا الْحَقِيقِيُّ النَّهْيُ عَنْ مَنْعِهِنَّ عَنْ مُبَاشَرَةِ النِّكَاحِ هَذَا هُوَ حَقِيقَةُ لَا تَمْنَعُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إذَا أُرِيدَ بِالنِّكَاحِ الْعَقْدُ. هَذَا بَعْدَ تَسْلِيمِ كَوْنِ الْخِطَابِ لِلْأَوْلِيَاءِ وَإِلَّا فَقَدْ قِيلَ لِلْأَزْوَاجِ فَإِنَّ الْخِطَابَ مَعَهُمْ فِي أَوَّلِ الْآية: {وَإِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ} أَيْ لَا تَمْنَعُوهُنَّ حِسًّا حَبْسًا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ أَنْ يَتَزَوَّجْنَ، وَيُوَافِقُهَا قوله تَعَالَى: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ}؛ لِأَنَّهُ حَقِيقَةُ إسْنَادِ الْفِعْلِ إلَى الْفَاعِلِ. وَأَمَّا الْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ وَمَا بِمَعْنَاهُ مِنْ الْأَحَادِيثِ فَمُعَارَضَةٌ بِقولهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْأَيِّمُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا» رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَمَالِكٌ فِي الْمُوَطَّإِ. وَالْأَيِّمُ: مَنْ لَا زَوْجَ لَهَا بِكْرًا كَانَتْ أَوْ ثَيِّبًا. فِي كِتَابِ الْأَمْثَالِ لِأَبِي عُبَيْدَةَ فِي أَمْثَالِ أَكْثَمَ بْنِ صَيْفِيٍّ: كُلُّ ذَاتِ بَعْلٍ سَتَئِيمُ. يُضْرَبُ لِتَحَوُّلِ الزَّمَنِ بِأَهْلِهِ، وَأَنْشَدَ قول الْأَوَّلِ:
أَفَاطِمُ إنِّي هَالِكٌ فَتَثَبَّتِي ** وَلَا تَجْزَعِي كُلُّ النِّسَاءِ تَئِيمُ

وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّهُ أَثْبَتَ لِكُلٍّ مِنْهَا وَمِنْ الْوَلِيِّ حَقًّا فِي ضِمْنِ قولهِ أَحَقُّ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ لِلْوَلِيِّ سِوَى مُبَاشَرَةِ الْعَقْدِ إذَا رَضِيَتْ وَقَدْ جَعَلَهَا أَحَقَّ مِنْهُ بِهِ، فَبَعْدَ هَذَا إمَّا أَنْ يَجْرِيَ بَيْنَ هَذَا الْحَدِيثِ، وَمَا رَوَوْا حُكْمُ الْمُعَارَضَةِ وَالتَّرْجِيحِ أَوْ طَرِيقَةُ الْجَمْعِ، فَعَلَى الْأَوَّلِ يَتَرَجَّحُ هَذَا بِقُوَّةِ السَّنَدِ وَعَدَمِ الِاخْتِلَافِ فِي صِحَّتِهِ، بِخِلَافِ الْحَدِيثَيْنِ فَإِنَّهُمَا: إمَّا ضَعِيفَانِ: فَحَدِيثُ «لَا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ» مُضْطَرِبٌ فِي إسْنَادِهِ فِي وَصْلِهِ وَانْقِطَاعِهِ وَإِرْسَالِهِ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ فِيهِ اخْتِلَافٌ، وَسَمَّى جَمَاعَةً مِنْهُمْ إسْرَائِيلُ وَشَرِيكُ، رَوَوْهُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَرَوَاهُ أَسْبَاطُ بْنُ مُحَمَّدٍ وَزَيْدُ بْنُ حِبَّانَ عَنْ يُونُسَ بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى. وَرَوَاهُ أَبُو عُبَيْدَةَ الْحَدَّادُ عَنْ يُونُسَ بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ فَقَدْ اضْطَرَبَ فِي وَصْلِهِ وَانْقِطَاعِهِ. وَقَدْ رَوَى شُعْبَةُ وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ يُونُسَ بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهَذَا اضْطِرَابٌ فِي إرْسَالِهِ؛ لِأَنَّ أَبَا بُرْدَةَ لَمْ يَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَشُعْبَةُ وَسُفْيَانُ أَضْبَطُ مِنْ كُلِّ مَنْ تَقَدَّمَ. قَالَ: وَأَسْنَدَهُ بَعْضُ أَصْحَابِ سُفْيَانَ عَنْ سُفْيَانَ وَلَا يَصِحُّ ثُمَّ أُسْنِدَ إلَى شُعْبَةَ قَالَ: سَمِعْتُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيَّ يَسْأَلُ أَبَا إِسْحَاقَ أَسَمِعْت أَبَا بُرْدَةَ يَقول: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ» قَالَ نَعَمْ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ إلْزَامِيٌّ، أَمَّا عَلَى رَأْيِنَا فَلَا يَضُرُّ الْإِرْسَالُ وَحَدِيثُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَقَدْ أَنْكَرَهُ الزُّهْرِيُّ.
قَالَ الطَّحَاوِيُّ: وَذَكَرَ ابْنُ جُرَيْجٍ أَنَّهُ سَأَلَ عَنْهُ ابْنَ شِهَابٍ فَلَمْ يَعْرِفْهُ، حَدَّثَنَا بِذَلِكَ ابْنُ أَبِي عِمْرَانَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ عَنْ ابْنِ عُلَيَّةَ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ بِذَلِكَ. وَإِمَّا حَسَنَانِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْأَصَحَّ فِي الْأَوَّلِ وَصْلُهُ؛ لِأَنَّ الْوَصْلَ وَالرَّفْعَ مُقَدَّمَانِ عَلَى الْوَقْفِ وَالْإِرْسَالِ عِنْدَ التَّعَارُضِ عَلَى الْأَصَحِّ وَإِنْ كَانَ شُعْبَةُ وَسُفْيَانُ أَحْفَظَ مِنْ غَيْرِهِمَا، لَكِنَّ حِكَايَةَ شُعْبَةَ تُفِيدُ أَنَّهُمْ سَمِعَاهُ مِنْ أَبِي إِسْحَاقَ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ ظَاهِرًا وَغَيْرُهُمَا سَمِعُوهُ مِنْهُ فِي مَجَالِسَ.
وَفِي الثَّانِي أَنَّ الثِّقَةَ قَدْ يَنْسَى الْحَدِيثَ وَلَا يُعَدُّ قَادِحًا فِي صِحَّتِهِ بَعْدَ عَدَالَةِ مَنْ رَوَى عَنْهُ وَثِقَتِهِ. وَلِذَلِكَ نَظَائِرُ أَشْهَرُهَا مَا رُوِيَ أَنَّ رَبِيعَةَ ذَكَرَ لِسُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ حَدِيثًا فَأَنْكَرَهُ، فَقَالَ لَهُ رَبِيعَةُ: أَنْتَ حَدَّثْتَنِي بِهِ عَنْ أَبِيك فَكَانَ سُهَيْلُ يَقول بَعْدَ ذَلِكَ حَدَّثَنِي رَبِيعَةُ عَنِّي، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُقَالَ هَذَا فِي عَدَمِ التَّكْذِيبِ، أَمَّا إذَا كَذَّبَهُ بِأَنْ يَقول مَا رَوَيْت ذَلِكَ فَنَصُّوا فِي الْأُصُولِ عَلَى رَدِّهِ.
وَفِي حِكَايَةِ ابْنِ جُرَيْجٍ إيمَاءٌ إلَى ذَلِكَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ عَدِيٍّ فِي الْكَامِلِ إيَّاهَا فِي تَرْجَمَةِ سُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى حَيْثُ قَالَ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: فَلَقِيتُ الزُّهْرِيَّ فَسَأَلْته عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ فَلَمْ يَعْرِفْهُ، فَقُلْتُ لَهُ: إنَّ سُلَيْمَانَ بْنَ مُوسَى حَدَّثَنَا بِهِ عَنْك، قَالَ: فَأَثْنَى عَلَى سُلَيْمَانَ خَيْرًا وَقَالَ: أَخْشَى أَنْ يَكُونَ وَهَمَ عَلَيَّ.اهـ. فَهَذَا اللَّفْظُ فِي عُرْفِ الْمُتَكَلِّمِينَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يُفِيدُ مَعْنَى نَفْيِهِ بِلَفْظِ النَّفْيِ. وَأَمَّا مَا ضَعَّفَهُ بِهِ مِنْ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا رَاوِيَتُهُ عَمِلَتْ بِخِلَافِهِ عَلَى مَا فِي الْمُوَطَّإِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا زَوَّجَتْ حَفْصَةَ بِنْتَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ مِنْ الْمُنْذِرِ بْنِ الزُّبَيْرِ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ غَائِبٌ بِالشَّامِّ فَلَمَّا قَدِمَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ قَالَ: وَمِثْلِي يُفْتَاتُ عَلَيْهِ فِي بَنَاتِهِ، فَكَلَّمَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا الْمُنْذِرَ بْنَ الزُّبَيْرِ فَقَالَ: إنَّ ذَلِكَ بِيَدِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: مَا كُنْت لِأَرُدَّ أَمْرًا قَضَيْته، فَاسْتَمَرَّتْ حَفْصَةُ عِنْدَ الْمُنْذِرِ وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ طَلَاقًا فَأُوِّلَ عَلَى مَعْنَى أَنَّهَا أَذِنَتْ فِي التَّزْوِيجِ وَمَهَّدَتْ أَسْبَابَهُ، فَلَمَّا لَمْ يَبْقَ إلَّا الْعَقْدُ أَشَارَتْ إلَى مَنْ يَلِي أَمْرَهَا عِنْدَ غَيْبَةِ أَبِيهَا أَنْ يَعْقِدَ، يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَانَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا تُخْطَبُ إلَيْهَا الْمَرْأَةُ مِنْ أَهْلِهَا فَتَشْهَدُ، فَإِذَا بَقِيَتْ عُقْدَةُ النِّكَاحِ قَالَتْ لِبَعْضِ أَهْلِهَا: زَوِّجْ فَإِنَّ الْمَرْأَةَ لَا تَلِي عَقْدَ النِّكَاحِ.
وَفِي لَفْظٍ: فَإِنَّ النِّسَاءَ لَا يَنْكِحْنَ. أَسْنَدَهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنْهُ. وَعَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ فَالتَّقْدِمَةُ لِلصَّحِيحِ، وَهُوَ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَمَالِكٌ فِي الْمُوَطَّإِ وَهُوَ مَا اسْتَدْلَلْنَا بِهِ. وَعَلَى الثَّانِي وَهُوَ إعْمَالُ طَرِيقَةِ الْجَمْعِ فَبِأَنْ يُحْمَلَ عُمُومُهُ عَلَى الْخُصُوصِ وَذَلِكَ سَائِغٌ، وَهَذَا يَخُصُّ حَدِيثَ أَبِي مُوسَى بَعْدَ جَوَازِ كَوْنِ النَّفْيِ لِلْكَمَالِ وَالسُّنَّةِ، وَهُوَ مَحْمَلُ قوله: «فَإِنَّ النِّسَاءَ لَا تَلِي وَلَا يَنْكِحْنَ» فِي رِوَايَةِ الْبَيْهَقِيّ. وَبِأَنْ يُرَادَ بِالْوَلِيِّ مَنْ يُتَوَقَّفُ عَلَى إذْنِهِ، أَيْ لَا نِكَاحَ إلَّا بِمَنْ لَهُ وِلَايَةٌ لِيَنْفِيَ نِكَاحَ الْكَافِرِ الْمُسْلِمَةَ وَالْمَعْتُوهَةَ وَالْأَمَةَ وَالْعَبْدَ أَيْضًا؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ فِي الْحَدِيثِ عَامٌّ غَيْرُ مُقَيَّدٍ. وَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ يَتِمُّ الْعَمَلُ بِالْحَدِيثِ الْجَامِعِ لِاشْتِرَاطِ الشَّهَادَةِ وَالْوَلِيِّ وَهُوَ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ حِبَّانَ فِي فَصْلِ الشَّهَادَةِ، وَيَخُصُّ حَدِيثُ عَائِشَةَ بِمَنْ نَكَحَتْ غَيْرَ الْكُفْءِ، وَالْمُرَادُ بِالْبَاطِلِ حَقِيقَتُهُ عَلَى قول مَنْ لَمْ يُصَحِّحْ مَا بَاشَرَتْهُ مِنْ غَيْرِ كُفْءٍ، أَوْ حُكْمُهُ عَلَى قول مَنْ يُصَحِّحُهُ، وَيَثْبُتُ لِلْوَلِيِّ حَقُّ الْخُصُومَةِ فِي فَسْخِهِ، كُلُّ ذَلِكَ سَائِغٌ فِي إطْلَاقَاتِ النُّصُوصِ وَيَجِبُ ارْتِكَابُهُ لِدَفْعِ الْمُعَارَضَةِ بَيْنَهَا، عَلَى أَنَّهُ يُخَالِفُ مَذْهَبَهُمْ، فَإِنَّ مَفْهُومَهُ إذَا أَنْكَحَتْ نَفْسَهَا بِإِذْنِ وَلِيِّهَا كَانَ صَحِيحًا وَهُوَ خِلَافُ مَذْهَبِهِمْ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ. فَثَبَتَ مَعَ الْمَنْقول الْوَجْهُ الْمَعْنَوِيُّ وَهُوَ أَنَّهَا تَصَرَّفَتْ فِي خَالِصِ حَقِّهَا وَهُوَ نَفْسُهَا وَهِيَ مِنْ أَهْلِهِ كَالْمَالِ فَيَجِبُ تَصْحِيحُهُ مَعَ كَوْنِهِ خِلَافَ الْأَوْلَى.

متن الهداية:
(وَلَا يَجُوزُ لِلْوَلِيِّ إجْبَارُ الْبِكْرِ الْبَالِغَةِ عَلَى النِّكَاحِ) خِلَافًا لِلشَّافِعَيَّ رَحِمَهُ اللَّهُ. لَهُ الِاعْتِبَارُ بِالصَّغِيرَةِ وَهَذَا لِأَنَّهَا جَاهِلَةٌ بِأَمْرِ النِّكَاحِ لِعَدَمِ التَّجْرِبَةِ وَلِهَذَا يَقْبِضُ الْأَبُ صَدَاقَهَا بِغَيْرِ أَمْرِهَا. وَلَنَا أَنَّهَا حُرَّةٌ مُخَاطَبَةٌ فَلَا يَكُونُ لِلْغَيْرِ عَلَيْهَا وِلَايَةٌ، وَالْوِلَايَةُ عَلَى الصَّغِيرَةِ لِقُصُورِ عَقْلِهَا وَقَدْ كَمُلَ بِالْبُلُوغِ بِدَلِيلِ تَوَجُّهِ الْخِطَابِ فَصَارَ كَالْغُلَامِ وَكَالتَّصَرُّفِ فِي الْمَالِ، وَإِنَّمَا يَمْلِكُ الْأَبُ قَبْضَ الصَّدَاقِ بِرِضَاهَا دَلَالَةً وَلِهَذَا لَا يَمْلِكُ مَعَ نَهْيِهَا.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَلَا يَجُوزُ لِلْوَلِيِّ إجْبَارُ الْبِكْرِ الْبَالِغَةِ عَلَى النِّكَاحِ) مَعْنَى الْإِجْبَارِ أَنْ يُبَاشِرَ الْعَقْدَ فَيَنْفُذُ عَلَيْهَا شَاءَتْ أَوْ أَبَتْ، وَمَبْنَى الْخِلَافِ أَنَّ عِلَّةَ ثُبُوتِ وِلَايَةِ الْإِجْبَارِ أَهُوَ الصِّغَرُ أَوْ الْبَكَارَةُ؟ فَعِنْدَنَا الصِّغَرُ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ الْبَكَارَةُ، فَانْبَنَى عَلَى هَذِهِ مَا إذَا زَوَّجَ الْأَبُ الصَّغِيرَةَ فَدُخِلَ بِهَا وَطَلُقَتْ قَبْلَ الْبُلُوغِ لَمْ يَجُزْ لِلْأَبِ تَزْوِيجُهَا عِنْدَهُ حَتَّى تَبْلُغَ فَتُشَاوَرَ لِعَدَمِ الْبَكَارَةِ. وَعِنْدَنَا لَهُ تَزْوِيجُهَا لِوُجُودِ الصِّغَرِ. وَحَاصِلُ وَجْهِ قولهِ أَنَّهُ أَلْحَقَ الْبِكْرَ الْكَبِيرَةَ بِالْبِكْرِ الصَّغِيرَةِ فِي ثُبُوتِ وِلَايَةِ إجْبَارِهَا فِي النِّكَاحِ بِجَامِعِ الْجَهْلِ بِأَمْرِ النِّكَاحِ وَعَاقِبَتِهِ، وَنَحْنُ نَمْنَعُ أَنَّ الْجَهْلَ بِأَمْرِ النِّكَاحِ هُوَ الْعِلَّةُ فِي الْأَصْلِ بَلْ هُوَ مَعْلُومُ الْإِلْغَاءِ لِلْقَطْعِ بِجَوَازِهِ عِنْدَ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ مِمَّنْ جَهِلَهُ لِعَدَمِ الْمُمَارَسَةِ، مَعَ أَنَّ الْجَهْلَ مُنْتَفٍ؛ لِأَنَّهُ قَلَّمَا تَجْهَلُ بَالِغَةٌ مَعْنَى عَقْدِ النِّكَاحِ وَحُكْمِهِ وَبِهَذَا يَسْقُطُ مَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ لِيَكُنْ الْجَهْلُ حِكْمَةَ تَعْلِيقِ الْحُكْمِ بِالصِّغَرِ كَمَا ذَكَرْتُمْ، لَكِنْ يَجُوزُ تَعْدِيَةُ الْحُكْمِ بِاعْتِبَارِ الْحِكْمَةِ الْمُجَرَّدَةِ إنْ وُجِدَتْ عَلَى الْمُخْتَارِ، بَلْ تَعْلِيقُ الْحُكْمِ فِي الْأَصْلِ بِالصِّغَرِ الْمُتَضَمِّنِ لِقُصُورِ الْعَقْلِ الْمُخْرِجِ لَهُ عَنْ أَهْلِيَّةِ أَنْ يَرْجِعَ إلَيْهِ فِي رَأْيٍ أَوْ يَلْتَفِتَ إلَيْهِ فِي أَمْرٍ وَنَهْيٍ، وَهَذَا الَّذِي ظَهَرَ أَثَرُهُ فِي التَّصَرُّفَاتِ مِنْ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَالْإِجَارَةِ وَالِاقْتِضَاءِ وَغَيْرِهَا مِنْ سَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ اتِّفَاقًا، عَلَى أَنَّ الْخِلَافَ فِي الْحِكْمَةِ الْمُجَرَّدَةِ الظَّاهِرَةِ الْمُنْضَبِطَةِ، وَظَاهِرُ كَلَامِ الْفَرِيقَيْنِ هُنَاكَ أَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَتَحَقَّقْ فِي الشَّرْعِ بَعْدُ. ثُمَّ لَا يَخْفَى أَنَّ الْجَهْلَ غَيْرُ مُنْضَبِطٍ بَلْ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ فَلَا يُعْتَبَرُ أَصْلًا، بَلْ الْمَظِنَّةُ وَالْكَلَامُ فِيهَا أَهِيَ الْبَكَارَةُ أَوْ الصِّغَرُ فَقُلْنَا الصِّغَرُ. أَمَّا الْبَكَارَةُ فَمَعْلُومٌ إلْغَاؤُهَا مِنْ الصَّرِيحِ وَالدَّلَالَةِ وَنَوْعٍ مِنْ الِاقْتِضَاءِ وَمَقْصُودِ الشَّرْعِ. أَمَّا الصَّرِيحُ فَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَابْنِ مَاجَهْ وَمُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا «أَنَّ جَارِيَةً بِكْرًا أَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَتْ أَنَّ أَبَاهَا زَوَّجَهَا وَهِيَ كَارِهَةٌ فَخَيَّرَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» وَهَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ، فَإِنَّهُ عَنْ حُسَيْنٍ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَحُسَيْنٌ هُوَ ابْنُ مُحَمَّدٍ الْمَرْوَزِيِّ أَحَدُ الْمُخَرَّجِ لَهُمْ فِي الصَّحِيحَيْنِ. وَقول الْبَيْهَقِيّ إنَّهُ مُرْسَلٌ لِرِوَايَةِ أَبِي دَاوُد إيَّاهُ مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدٍ عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ عِكْرِمَةَ مُرْسَلًا، وَنَقَلَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِيهِ تَخْطِئَةَ الْوَصْلِ لِرِوَايَةِ حَمَّادٍ هَذِهِ، وَابْنُ عُلَيَّةَ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرْسَلًا، وَنِسْبَةُ الْوَهْمِ فِي الْوَصْلِ إلَى حُسَيْنٍ لِأَنَّهُ لَمْ يَرْوِهِ عَنْ جَرِيرٍ غَيْرُهُ مَرْدُودٌ. أَمَّا أَوَّلًا فَبِحُجِّيَّةِ الْمُرْسَلِ الصَّحِيحِ. وَأَمَّا ثَانِيًا فَقَدْ تَابَعَ حُسَيْنًا عَلَى الْوَصْلِ عَنْ جَرِيرٍ سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، كَمَا نَقَلَهُ صَاحِبُ التَّنْقِيحِ عَنْ الْخَطِيبِ الْبَغْدَادِيِّ قَالَ: فَبَرِئَتْ عُهْدَتُهُ، يَعْنِي حُسَيْنًا وَزَالَتْ تَبَعَتُهُ ثُمَّ أَسْنَدَهُ عَنْهُ، قَالَ: وَرَوَاهُ أَيُّوبُ عَنْ سُوَيْد هَكَذَا عَنْ الثَّوْرِيِّ عَنْ أَيُّوبَ مَوْصُولًا، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ مَعْمَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ زَيْدِ بْنِ حِبَّانَ عَنْ أَيُّوبَ فَزَالَ الرَّيْبُ وَصَارَ الْحَاصِلُ أَنَّ عِكْرِمَةَ قَالَ مَرَّةً: إنَّ جَارِيَةً بِكْرًا أَتَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَرْسَلَ، وَذَكَرَ مَرَّةً أَوْ مِرَارًا الْوَاسِطَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا بِدَعَ فِي ذَلِكَ. قَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ: حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ هَذَا صَحِيحٌ، وَلَيْسَتْ هَذِهِ خَنْسَاءَ بِنْتَ خِذَامٍ الَّتِي زَوَّجَهَا أَبُوهَا وَهِيَ ثَيِّبٌ فَكَرِهَتْهُ فَرَدَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نِكَاحَهُ، فَإِنَّ هَذِهِ بِكْرٌ وَتِلْكَ ثَيِّبٌ.اهـ. عَلَى أَنَّهُ رُوِيَ أَنَّ خَنْسَاءَ أَيْضًا كَانَتْ بِكْرًا، أَخْرَجَ النَّسَائِيّ فِي سُنَنِهِ حَدِيثَهَا وَفِيهِ أَنَّهَا كَانَتْ بِكْرًا. وَرَوَاهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ خَنْسَاءَ قَالَتْ: «أَنْكَحَنِي أَبِي وَأَنَا كَارِهَةٌ وَأَنَا بِكْرٌ، فَشَكَوْتُ ذَلِكَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ». الْحَدِيثَ، لَكِنَّ رِوَايَةَ الْبُخَارِيِّ تَتَرَجَّحُ. قَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ: وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُمَا ثِنْتَانِ مَا أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَدَّ نِكَاحَ ثَيِّبٍ وَبِكْرٍ أَنْكَحَهُمَا أَبُوهُمَا وَهُمَا كَارِهَتَانِ». قَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ: وَتَزَوَّجَتْ خَنْسَاءُ بِمَنْ هَوِيَتْهُ وَهُوَ أَبُو لُبَابَةَ بْنُ عَبْدِ الْمُنْذِرِ، صَرَّحَ بِهِ فِي سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ فَوَلَدَتْ لَهُ السَّائِبَ بْنَ أَبِي لُبَابَةَ.اهـ. وَهَذَا الْحَدِيثُ وَإِنْ كَانَ فِيهِ إِسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ بْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ وَهُوَ ضَعِيفٌ لَكِنْ لَمْ يَتَفَرَّدْ بِهِ عَنْ الذِّمَارِيِّ فَقَدْ رَوَاهُ عَنْهُ أَيْضًا أَبُو سَلَمَةَ مُسْلِمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَمَّارٍ الصَّنْعَانِيُّ. وَوَهَّمَ الدَّارَقُطْنِيُّ الذِّمَارِيَّ نَفْسَهُ عَنْ الثَّوْرِيِّ وَصَوَّبَ إرْسَالَهُ عَنْ يَحْيَى عَنْ الْمُهَاجِرِ عَنْ عِكْرِمَةَ مُرْسَلًا، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ يَتِمُّ بِهِ الْمَقْصُودُ الَّذِي سُقْنَاهُ لَهُ. وَأَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ شُعَيْبِ بْنِ إِسْحَاقَ عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ جَابِرٍ «أَنَّ رَجُلًا زَوَّجَ ابْنَتَهُ وَهِيَ بِكْرٌ مِنْ غَيْرِ أَمْرِهَا، فَأَتَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا» فَهَذَا عَنْ جَابِرٍ، وَوَهَّمَ شُعَيْبًا فِي رَفْعِهِ قَالَ: وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مُرْسَلٌ، وَبِهِ يَتِمُّ مَقْصُودُنَا إمَّا لِأَنَّهُ حُجَّةٌ وَإِمَّا لِأَنَّا ذَكَرْنَاهُ لِلِاسْتِشْهَادِ وَالتَّقْوِيَةِ. وَأَحَادِيثُ أُخَرُ رُوِيَتْ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ وَإِنْ تُكُلِّمَ فِيهَا. وَأَمَّا مَا اسْتَدَلُّوا بِهِ مِنْ قولهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الثَّيِّبُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا، وَالْبِكْرُ يَسْتَأْمِرُهَا أَبُوهَا فِي نَفْسِهَا» بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ خَصَّ الثَّيِّبَ بِأَنَّهَا أَحَقُّ، فَأَفَادَ أَنَّ الْبِكْرَ لَيْسَتْ أَحَقَّ بِنَفْسِهَا مِنْهُ فَاسْتِفَادَةُ ذَلِكَ بِالْمَفْهُومِ وَهُوَ لَيْسَ حُجَّةً عِنْدَنَا، وَلَوْ سَلِمَ فَلَا يُعَارِضُ الْمَفْهُومَ الصَّرِيحَ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ رَدِّهِ، وَلَوْ سَلِمَ فَنَفْسُ نَظْمِ بَاقِي الْحَدِيثِ يُخَالِفُ الْمَفْهُومَ وَهُوَ قولهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَالْبِكْرُ يَسْتَأْمِرُهَا» إلَخْ، إذْ وُجُوبُ الِاسْتِئْمَارِ عَلَى مَا يُفِيدُهُ لَفْظُ الْخَبَرِ مُنَافٍ لِلْإِجْبَارِ؛ لِأَنَّهُ طَلَبُ الْأَمْرِ أَوْ الْإِذْنِ، وَفَائِدَتُهُ الظَّاهِرَةُ لَيْسَتْ إلَّا لِيَسْتَعْلِمَ رِضَاهَا أَوْ عَدَمَهُ فَيَعْمَلَ عَلَى وَفْقِهِ، هَذَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ طَلَبِ الِاسْتِئْذَانِ فَيَجِبُ الْبَقَاءُ مَعَهُ وَتَقْدِيمُهُ عَلَى الْمَفْهُومِ لَوْ عَارَضَهُ. وَالْحَاصِلُ مِنْ لَفْظِ إثْبَاتِ الْأَحَقِّيَّةِ لِلثَّيِّبِ بِنَفْسِهَا مُطْلَقًا، ثُمَّ أَثْبَتَ مِثْلَهُ لِلْبِكْرِ حَيْثُ أَثْبَتَ لَهَا حَقَّ أَنْ تُسْتَأْمَرَ، وَغَايَةُ الْأَمْرِ أَنَّهُ نَصَّ عَلَى أَحَقِّيَّةِ كُلٍّ مِنْ الثَّيِّبِ وَالْبِكْرِ بِلَفْظٍ يَخُصُّهَا كَأَنَّهُ قَالَ: الثَّيِّبُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا وَالْبِكْرُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا أَيْضًا، غَيْرَ أَنَّهُ أَفَادَ أَحَقِّيَّةَ الْبِكْرِ بِإِخْرَاجِهِ فِي ضِمْنِ إثْبَاتِ حَقِّ الِاسْتِئْمَارِ لَهَا. وَسَبَبُهُ أَنَّ الْبِكْرَ لَا تُخْطَبُ إلَى نَفْسِهَا عَادَةً بَلْ إلَى وَلِيِّهَا، بِخِلَافِ الثَّيِّبِ، فَلَمَّا كَانَ الْحَالُ أَنَّهَا أَحَقُّ بِنَفْسِهَا وَخُطْبَتُهَا تَقَعُ لِلْوَلِيِّ صَرَّحَ بِإِيجَابِ اسْتِئْمَارِهِ إيَّاهَا فَلَا يَفْتَاتُ عَلَيْهَا بِتَزْوِيجِهَا قَبْلَ أَنْ يَظْهَرَ رِضَاهَا بِالْخَاطِبِ، وَيُعَضِّدُ هَذَا الْمَعْنَى الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى الثَّابِتَةُ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَأَبِي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيِّ وَالنَّسَائِيُّ وَمَالِكٍ فِي الْمُوَطَّإِ «الْأَيِّمُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا، وَالْبِكْرُ تُسْتَأْذَنُ فِي نَفْسِهَا، وَإِذْنُهَا صُمَاتُهَا» وَالْأَيِّمُ مَنْ لَا زَوْجَ لَهَا بِكْرًا كَانَتْ أَوْ ثَيِّبًا عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ قَرِيبًا فَإِنَّهَا صَرِيحَةٌ فِي إثْبَاتِ الْأَحَقِّيَّةِ لِلْبِكْرِ ثُمَّ تَخْصِيصِهَا بِالِاسْتِئْذَانِ وَذَلِكَ لِمَا قُلْنَاهُ مِنْ السَّبَبِ وَبِهِ تَتَّفِقُ الرِّوَايَتَانِ، بِخِلَافِ مَا مَشَوْا عَلَيْهِ فَإِنَّهُ إثْبَاتُ الْمُعَارَضَةِ بَيْنَهُمَا وَتَخْصِيصُ الْمَنْطُوقِ وَهُوَ الْأَيِّمُ لِإِعْمَالِ الْمَفْهُومِ، مَعَ أَنَّ بَاقِيَ نَفْسِ رِوَايَةِ الثَّيِّبِ ظَاهِرَةٌ فِي خِلَافِ الْمَفْهُومِ عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ وَصَرِيحُ الرَّدِّ الَّذِي صَحَّ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا مَرَّ فَلَا يَجُوزُ الْعُدُولُ عَمَّا ذَهَبْنَا إلَيْهِ فِي تَقْرِيرِ الْحَدِيثِ خُصُوصًا وَهُوَ جَمْعٌ ظَاهِرٌ لَا بِطَرِيقِ الْحَمْلِ وَالتَّخْصِيصِ وَلَا يَدْفَعُهُ قَاعِدَةٌ لُغَوِيَّةٌ وَلَا أَصْلِيَّةٌ.
وَفِي سُنَنِ النَّسَائِيّ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا أَخْبَرَتْ «أَنَّ فَتَاةً دَخَلَتْ عَلَيْهَا فَقَالَتْ: إنَّ أَبِي زَوَّجَنِي ابْنَ أَخِيهِ لِيَرْفَعَ خَسِيسَتَهُ وَأَنَا كَارِهَةٌ، فَقَالَتْ اجْلِسِي حَتَّى يَأْتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَتْهُ، فَأَرْسَلَ إلَى أَبِيهَا فَجَعَلَ الْأَمْرَ إلَيْهَا، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ أَجَزْتُ مَا صَنَعَ أَبِي، وَإِنَّمَا أَرَدْتُ أَنْ أُعَلِّمَ النِّسَاءَ أَنْ لَيْسَ إلَى الْآبَاءِ مِنْ الْأَمْرِ شَيْءٌ» وَهَذَا يُفِيدُ بِعُمُومِهِ أَنْ لَيْسَ لَهُ الْمُبَاشَرَةُ حَقًّا ثَابِتًا بَلْ اسْتِحْبَابٌ. وَفِيهِ دَلِيلٌ مِنْ جِهَةِ تَقْرِيرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قولهَا ذَلِكَ أَيْضًا، وَهُوَ حَدِيثٌ حُجَّةٌ، وَمَا قِيلَ هُوَ مُرْسَلُ ابْنِ أَبِي بُرْدَةَ فَالْمُرْسَلُ حُجَّةٌ وَبَعْدَ التَّسْلِيمِ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، فَإِنَّ سَنَدَ النَّسَائِيّ قَالَ: حَدَّثَنَا زِيَادُ بْنُ أَيُّوبَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ عَرَّابٍ عَنْ كَهَمْسِ بْنِ الْحَسَنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ، وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ: حَدَّثَنَا هَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ كَهَمْسِ بْنِ الْحَسَنِ عَنْ ابْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: جَاءَتْ فَتَاةٌ، وَحَمْلُهُ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لِعَدَمِ الْكَفَاءَةِ خِلَافُ الْأَصْلِ مَعَ أَنَّ الْعَرَبَ إنَّمَا يَعْتَبِرُونَ فِي الْكَفَاءَةِ النَّسَبَ، وَالزَّوْجُ كَانَ ابْنَ عَمِّهَا. وَأَمَّا الدَّلَالَةُ فَلَا وِلَايَةَ لَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي أَقَلِّ شَيْءٍ مِنْ مَالِ الْبِكْرِ الْبَالِغَةِ إلَّا بِإِذْنِهَا، وَكُلُّ الْمَالِ دُونَ النَّفْسِ فَكَيْفَ يَمْلِكُ أَنْ يُخْرِجَهَا قَسْرًا إلَى مَنْ هُوَ أَبْغَضُ الْخَلْقِ إلَيْهَا وَيُمَلِّكُهُ رِقَّهَا، وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَهَابَ جَمِيعِ مَالِهَا أَهْوَنُ عَلَيْهَا مِنْ ذَلِكَ فَهَذَا مِمَّا يَنْبُو عَنْهُ قَوَاعِدُ الشَّرْعِ. وَأَمَّا الِاقْتِضَاءُ فَجَمِيعُ مَا فِي السُّنَّةِ مِنْ الصِّحَاحِ وَالْحِسَانِ الْمُصَرِّحَةِ بِاسْتِئْذَانِ الْبِكْرِ وَمَنْعِ التَّنْفِيذِ عَلَيْهَا بِلَا إذْنِهَا كَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ «لَا تُنْكَحُ الْبِكْرُ حَتَّى تُسْتَأْذَنَ» الْحَدِيثَ، وَسَيَأْتِي لَا يُعْقَلُ لَهُ فَائِدَةٌ إلَّا الْعَمَلُ عَلَى وَفْقِهِ لِاسْتِحَالَةِ أَنْ يَكُونَ الْغَرَضُ مِنْ اسْتِئْذَانِهَا أَنْ تُخَالِفَ، فَلَوْ كَانَ الْإِجْبَارُ ثَابِتًا لَزِمَ ذَلِكَ وَعَرَى الْأَمْرُ بِالِاسْتِئْذَانِ عَنْ الْفَائِدَةِ بَلْ لَزِمَتْ الْإِحَالَةُ، وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ الِاقْتِضَاءُ الْمُصْطَلَحُ قُلْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ إنَّهُ نَوْعٌ مِنْهُ فَظَهَرَ ظُهُورًا لَا مَرَدَّ لَهُ أَنَّ إيجَابَ اسْتِئْذَانِهَا صَرِيحٌ فِي نَفْيِ إجْبَارِهَا وَالْوِلَايَةِ عَلَيْهَا فِي ذَلِكَ. وَأَمَّا تَحْقِيقُ مَقْصُودِ شَرْعِيَّةِ الْعَقْدِ فَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ شَرْعِيَّتِهِ انْتِظَامُ الْمَصَالِحِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ لِيَحْصُلَ النَّسْلُ وَيَتَرَبَّى بَيْنَهُمَا وَلَا يَتَحَقَّقُ هَذَا مَعَ غَايَةِ الْمُنَافَرَةِ. فَإِذَا عُرِفَ قِيَامُ سَبَبِ انْتِفَاءِ الْمَقْصُودِ الشَّرْعِيِّ قَبْلَ الشُّرُوعِ وَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ عَقْدٌ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ فَائِدَتُهُ ظَاهِرًا، بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ ظَاهِرًا ثُمَّ يَطْرَأُ بَعْدَ الْعَقْدِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
قولهُ: (وَإِنَّمَا يَمْلِكُ إلَخْ) يَعْنِي أَنَّ الْعَادَةَ جَرَتْ بِقَبْضِ الْآبَاءِ أَصْدِقَةَ الْأَبْكَارِ لِيُجَهِّزُوهُنَّ بِهَا مَعَ أَمْوَالِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ غَيْرِ مُعَارَضَةِ الْبَنَاتِ فِي ذَلِكَ لِآبَائِهِنَّ، وَلِاسْتِحْيَاءِ الْبَنَاتِ مِنْ الْمُطَالَبَةِ وَالِاقْتِضَاءِ فَكَانَ الْإِذْنُ مِنْهُنَّ ثَابِتًا دَلَالَةً نَظَرًا إلَى مَا ذَكَرْنَا فَعَنْ ذَلِكَ يَبْرَأُ الزَّوْجُ بِالدَّفْعِ إلَيْهِ إلَّا أَنْ يُوجَدَ نَهْيُهَا صَرِيحًا؛ لِأَنَّ الدَّلَالَةَ لَا تُعْتَبَرُ مَعَ الصَّرِيحِ بِخِلَافِ مُتَعَلِّقِهَا. وَمِنْ فُرُوعِ قَبْضِ الْأَبِ صَدَاقَهَا أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ إلَّا قَبْضَ الْمُسَمَّى حَتَّى لَوْ كَانَتْ بِيضًا لَا يَلِي قَبْضَ السُّودِ وَبِالْعَكْسِ؛ لِأَنَّهُ اسْتِبْدَالٌ وَلَا يَمْلِكُهُ. قَالَ الْحَلْوَانِيُّ: هَذَا مَذْهَبُ عُلَمَائِنَا، وَعَنْ عُلَمَاءِ بَلْخٍ أَنَّهُمْ جَوَّزُوا ذَلِكَ وَهُوَ أَرْفَقُ بِالنَّاسِ.
وَفِي الْفَتَاوَى الصُّغْرَى: وَإِنْ قَبَضَ الضِّيَاعَ: يَعْنِي بَدَلَ الْمُسَمَّى لَا يَجُوزُ إلَّا فِي مَكَان جَرَتْ الْعَادَةُ فِيهِ بِذَلِكَ كَمَا فِي رساتيقنا يَأْخُذُونَ بِبَعْضِ الْمَهْرِ ضِيَاعًا، هَذَا إذَا كَانَتْ كَبِيرَةً بِكْرًا، فَلَوْ كَانَتْ صَغِيرَةً جَازَ قَبْضُ الضِّيَاعِ وَغَيْرِهَا مِمَّا يَخْتَارُهُ؛ لِأَنَّهُ بَيْعٌ وَالْأَبُ يَمْلِكُ بَيْعَ مَالِ بِنْتِهِ الصَّغِيرَةِ.
وَفِي النَّوَازِلِ: وَإِنْ كَانَ فِي بَلَدٍ يَتَعَارَفُونَ قَبْضَ الضِّيَاعِ بِأَضْعَافِ قِيمَتِهَا جَازَ؛ لِأَنَّهُ قَبْضُ الْمَهْرِ بِحُكْمِ الْعُرْفِ وَلَيْسَ شِرَاءً فِي الْحَقِيقَةِ، وَلِلْأَبِ أَنْ يُطَالِبَ بِالْمَهْرِ وَإِنْ كَانَتْ الزَّوْجَةُ صَغِيرَةً لَا يُسْتَمْتَعُ بِهَا، بِخِلَافِ النَّفَقَةِ؛ لِأَنَّهَا جَزَاءُ الِاحْتِبَاسِ، وَوُجُوبُ الْمَهْرِ حُكْمُ نَفْسِ الْعَقْدِ. وَالْجَدُّ عِنْدَ عَدَمِ الْأَبِ كَالْأَبِ وَلَا يَمْلِكُ غَيْرُهُمَا قَبْضَ الْمَهْرِ وَلَا الْأُمُّ إلَّا بِحُكْمِ الْوِصَايَةِ وَالزَّوْجَةُ صَغِيرَةٌ، حَتَّى لَوْ قَبَضَتْ الْأُمُّ بِلَا وِصَايَةٍ فَكَبُرَتْ الْبِنْتُ لَهَا مُطَالَبَةُ الزَّوْجِ وَيَرْجِعُ هُوَ عَلَى الْأُمِّ، كَذَا ذَكَرَ.
وَفِي جَوَامِعِ الْفِقْهِ زَادَ: لِلْقَاضِي قَبْضُ صَدَاقِ الْبِكْرِ صَغِيرَةً كَانَتْ أَوْ كَبِيرَةً إلَّا إذَا زُفَّتْ. وَلَوْ طَلَبَ الْأَبُ مَهْرَهَا، أَعْنِي الْبِكْرَ الْبَالِغَةَ فَقَالَ الزَّوْجُ دَخَلْتُ بِهَا: يَعْنِي فَلَا تَمْلِكَ قَبْضَهُ؛ لِأَنَّهَا خَرَجَتْ عَنْ حُكْمِ الْأَبْكَارِ وَقَالَ الْأَبُ بَلْ هِيَ بِكْرٌ فِي مَنْزِلِي فَالْقول قول الْأَبِ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ يَدَّعِي حَادِثًا بِلَا بَيِّنَةٍ، فَإِنْ قَالَ الزَّوْجُ حَلِّفْهُ أَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ أَنِّي دَخَلْتُ بِهَا قَالَ الصَّدْرُ الشَّهِيدُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَحْلِفَ وَهُوَ صَوَابٌ؛ لِأَنَّ الْأَبَ لَوْ أَقَرَّ بِذَلِكَ صَحَّ إقْرَارُهُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ حَتَّى لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُطَالِبَ بِالْمَهْرِ وَكَانَتْ الْمُطَالَبَةُ لِلْبِنْتِ فَكَانَ التَّحْلِيفُ مُفِيدًا. قَالَ: وَرَأَيْت فِي أَدَبِ الْخَصَّافِ بِأَنَّهُ لَا يَحْلِفُ، وَلَوْ طَالَبَتْ الزَّوْجَ فَادَّعَى دَفْعَهُ لِلْأَبِ وَلَا بَيِّنَةَ غَيْرَ أَنَّ الْأَبَ أَقَرَّ أَنَّهُ قَبَضَهُ إنْ كَانَتْ الْبِنْتُ بِكْرًا وَقْتَ الْإِقْرَارِ صُدِّقَ أَوْ ثَيِّبًا فَلَا؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ حَالَةَ الْبَكَارَةِ فِي حَالِ وِلَايَةِ قَبْضِهِ بِخِلَافِ حَالِ الثُّيُوبَةِ، وَلَا يُشْكِلُ عَدَمُ تَصْدِيقِهِ حَالَ الثُّيُوبَةِ إذَا كَانَتْ كَبِيرَةً، فَلَوْ كَانَتْ صَغِيرَةً صُدِّقَ، وَلَوْ تَزَوَّجَهَا صَغِيرَةً فَدَخَلَ بِهَا ثُمَّ بَلَغَتْ فَطَلَبَتْ الْمَهْرَ فَقَالَ الزَّوْجُ دَفَعْته إلَى أَبِيك وَأَنْتِ صَغِيرَةٌ وَصَدَّقَهُ الْأَبُ لَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ عَلَيْهَا الْيَوْمَ. وَلَهَا أَنْ تَأْخُذَ الْمَهْرَ مِنْ الزَّوْجِ، وَلَيْسَ لِلزَّوْجِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْأَبِ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِاسْتِحْقَاقِهِ الْقَبْضَ إلَّا إنْ قَالَ عِنْدَ الْقَبْضِ الْمَهْرُ أَخَذْته مِنْك عَلَى أَنْ أَبْرَأْتُك مِنْ صَدَاقِ بِنْتِي، فَحِينَئِذٍ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ إذَا أَنْكَرَتْ.

متن الهداية:
قَالَ: (وَإِذَا اسْتَأْذَنَهَا فَسَكَتَتْ أَوْ ضَحِكَتْ فَهُوَ إذْنٌ) لِقولهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْبِكْرُ تُسْتَأْمَرُ فِي نَفْسِهَا، فَإِنْ سَكَتَتْ فَقَدْ رَضِيَتْ» وَلِأَنَّ جَنْبَةَ الرِّضَا فِيهِ رَاجِحَةٌ، لِأَنَّهَا تَسْتَحْيِي عَنْ إظْهَارِ الرَّغْبَةِ لَا عَنْ الرَّدِّ، وَالضَّحِكُ أَدَلُّ عَلَى الرِّضَا مِنْ السُّكُوتِ، بِخِلَافِ مَا إذَا بَكَتْ لِأَنَّهُ دَلِيلُ السُّخْطِ وَالْكَرَاهَةِ. وَقِيلَ إذَا ضَحِكَتْ كَالْمُسْتَهْزِئَةِ بِمَا سَمِعَتْ لَا يَكُونُ رِضًا، وَإِذَا بَكَتْ بِلَا صَوْتٍ لَمْ يَكُنْ رَدًّا.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَإِذَا اسْتَأْذَنَهَا فَسَكَتَتْ إلَخْ) ظَاهِرٌ حُكْمًا وَدَلِيلًا، وَالْمُرَادُ بِالسُّكُوتِ الِاخْتِيَارِيُّ، فَلَوْ أَخَذَهَا سُعَالٌ أَوْ عُطَاسٌ أَوْ أَخَذَ فَمَهَا فَخَلَصَتْ فَرَدَّتْ ارْتَدَّ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْجَهْلِ. فِي التَّجْنِيسِ: حَتَّى لَوْ زَوَّجَهَا أَبُوهَا فَسَكَتَتْ وَهِيَ لَا تَعْلَمُ أَنَّ السُّكُوتَ رِضًا جَازَ، وَلَوْ تَبَسَّمَتْ يَكُونُ إذْنًا فِي الصَّحِيحِ، وَمَا حَكَاهُ بِقولهِ وَقِيلَ إذَا ضَحِكَتْ كَالْمُسْتَهْزِئَةِ لَا يَكُونُ رِضًا، وَضِحْكُ الِاسْتِهْزَاءِ لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ يَحْضُرُهُ، وَإِذَا بَكَتْ بِلَا صَوْتٍ لَا يَكُونُ رَدًّا اُخْتِيرَ لِلْفَتْوَى. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي الْبُكَاءِ أَنَّهُ رِضًا؛ لِأَنَّهُ لِشِدَّةِ الْحَيَاءِ. وَعَنْ مُحَمَّدٍ رُدَّ؛ لِأَنَّ وَضْعَهُ لِإِظْهَارِ الْكَرَاهَةِ. وَالْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ اعْتِبَارُ قَرَائِنِ الْأَحْوَالِ فِي الْبُكَاءِ وَالضَّحِكِ، فَإِنْ تَعَارَضَتْ أَوْ أُشْكِلَ اُحْتِيطَ، وَعَنْ هَذَا مَا اعْتَبَرَ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّ دُمُوعَهَا إنْ كَانَتْ حَارَّةً فَهُوَ رَدٌّ أَوْ بَارِدَةً فَهُوَ رِضًا، لَكِنَّهُ اعْتِبَارٌ قَلِيلُ الْجَدْوَى أَوْ عَدِيمُهُ، إذْ الْإِحْسَاسُ بِكَيْفِيَّتَيْ الدَّمْعِ لَا يَتَهَيَّأُ إلَّا لِخَدِّ الْبَاكِي، وَلَوْ ذَهَبَ إنْسَانٌ يُحِسُّهُ لَا يُدْرِكُ حَقِيقَةَ الْمَقْصُودِ وَلَيْسَ بِمُعْتَادٍ وَلَا يَطْمَئِنُّ بِهِ الْقَلْبُ، إلَّا أَنَّهُ كَذَا ذَكَرَ. وَذَكَرَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ وَغَيْرُهُ مَسَائِلَ اعْتَبَرْت السُّكُوتَ فِيهَا رِضًا مِنْهَا هَذِهِ، وَضَمَمْت إلَيْهَا مَا تَيَسَّرَ وَقَدْ جَمَعْتهَا فِي هَذِهِ الْأَبْيَاتِ تَسْهِيلًا لِحِفْظِهَا:
سُكُوتُ بِكْرٍ فِي النِّكَاحِ وَفِي ** قَبْضِ الْأَبْيَنِ صَدَاقُهَا إذْنُ

قَبْضُ الْمُمَلَّكِ وَالْمَبِيعِ وَلَوْ ** فِي فَاسِدٍ وَإِذَا اشْتَرَى قِنُّ

وَكَذَا الصَّبِيُّ وَذُو الشِّرَاءِ إذَا ** كَانَ الْخِيَارُ لَهُ كَذَا سَنُّوا

مَوْلَى الْأَسِيرِ يُبَاعُ وَهُوَ يَرَى ** وَأَبُو الْوَلِيدِ إذَا انْقَضَى الزَّمَنُ

وَعَقِيبَ شَقِّ الزِّقِّ أَوْ حَلِفٍ ** يُنْفَى بِهِ الْإِسْكَانُ إذْ ضَنُّوا

وَعَقِيبَ قول مَوَاضِعَ نُمْضِي ** أَوْ وَضْعِ مَالٍ ذَا لَهُ يَرْنُو

وَبُلُوغِ جَارِيَةٍ وَزَوَّجَهَا ** غَيْرُ الْأَبْيَنِ بِذَاكَ قَدْ مَنُّوا

وَكَذَا الشَّفِيعُ وَذُو الْجَهَالَةِ فِي ** نَسَبٍ شَرَاهُ مَنْ بِهِ ضَغَنُ

وَإِذَا يَقول لِغَيْرِهِ فَسَكَتْ ** هَذَا مَتَاعِي بِعْهُ يَا مَعْنُ

وَإِذَا رَأَى مِلْكًا يُبَاعُ لَهُ ** وَتَصَرَّفُوا زَمَنًا فَلَمْ يَدْنُو

قولي سُكُوتُ بِكْرٍ يَشْمَلُ مَا قَبْلَ النِّكَاحِ وَمَا بَعْدَهُ: أَعْنِي إذَا زَوَّجَهَا فَبَلَغَهَا فَسَكَتَتْ، وَقَبْضُ الْمُمَلَّكِ يَدْخُلُ فِيهِ الْمَوْهُوبُ وَالْمُتَصَدَّقُ بِهِ إذَا قَبَضَ بِمَرْأًى مِنْ الْمُمَلَّكِ فَسَكَتَ كَانَ قَبْضًا مُعْتَبَرًا يَثْبُتُ بِهِ الْمِلْكُ، وَكَذَا الْمَبِيعُ وَلَوْ فِي بَيْعٍ فَاسِدٍ إذَا قَبَضَهُ الْمُشْتَرِي بِمَرْأًى مِنْ الْبَائِعِ فَسَكَتَ صَحَّ فَيَسْقُطُ حَقُّ حَبْسِ الْبَائِعِ إيَّاهُ إلَى اسْتِيفَاءِ الثَّمَنِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّهُ بَلْ يُطَالِبُ بِالثَّمَنِ.
وَفِي كِتَابِ الْإِكْرَاهِ لَا يَكُونُ إذْنًا صَحِيحًا فِي الْفَاسِدِ. وَإِذَا اشْتَرَى قِنٌّ: يَعْنِي إذَا اشْتَرَى الْعَبْدُ شَيْئًا بِحَضْرَةِ سَيِّدِهِ فَسَكَتَ كَانَ إذْنًا. قَالَ الْحَلْوَانِيُّ: لَكِنْ نَفْسُ مَا وَقَعَتْ الرُّؤْيَةُ فِيهِ لَا يَجُوزُ بَلْ مَا بَعْدَهُ، وَالصَّبِيُّ إذَا اشْتَرَى أَوْ بَاعَ بِمَرْأًى مِنْ وَلِيِّهِ فَسَكَتَ كَالْعَبْدِ، وَذُو الشِّرَاءِ: أَيْ الْمُشْتَرِي عَبْدًا إذَا كَانَ لَهُ الْخِيَارُ فَرَأَى الْعَبْدَ يَبِيعُ أَوْ يَشْتَرِي فَسَكَتَ سَقَطَ خِيَارُهُ؛ لِأَنَّ الْإِذْنَ فَرْعُ نَفَاذِ الْبَيْعِ. وَمَوْلَى الْأَسِيرِ: أَيْ الْعَبْدُ الَّذِي أُسِرَ إذَا ظَهَرَ عَلَى دَارِ الْحَرْبِ فَوَقَعَ فِي سَهْمِ مُسْلِمٍ كَانَ مَوْلَاهُ أَحَقَّ بِهِ بِالْقِيمَةِ، فَلَوْ بَاعَهُ مِنْ آخَرَ وَمَوْلَاهُ يَرَاهُ فَسَكَتَ بَطَلَ حَقُّهُ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ. وَأَبُو الْوَلِيدِ إذَا سَكَتَ وَلَمْ يَنْفِهِ حَتَّى مَضَتْ أَيَّامُ التَّهْنِئَةِ عَلَى الْخِلَافِ فِي مِقْدَارِ زَمَنِهِ أَهُوَ الْأُسْبُوعُ أَوْ مُدَّةُ النِّفَاسِ لَزِمَهُ فَلَا يَنْتَفِي بَعْدُ، وَالسُّكُوتُ عَقِيبَ شَقِّ رَجُلٍ زِقَّهُ حَتَّى سَالَ مَا فِيهِ لَا يَضْمَنُ الشَّاقُّ مَا سَالَ وَعَقِيبَ الْحَلِفِ عَلَى أَنْ لَا أُسْكِنَ فُلَانًا وَفُلَانٌ سَاكِنٌ فَيَحْنَثُ، فَإِنْ قَالَ عَقِبَهُ اُخْرُجْ فَأَبَى لَمْ يَحْنَثْ. وَعَقِيبَ قول مُوَاضِعٍ أَيْ رَجُلٍ وَاضَعَ غَيْرَهُ عَلَى أَنْ يَظْهَرَ بَيْعُ تَلْجِئَةٍ ثُمَّ قَالَ بَدَا لِي أَنْ أَجْعَلَهُ بَيْعًا نَافِذًا بِمِسْمَعٍ مِنْ الْآخَرِ فَسَكَتَ ثُمَّ عَقَدَ كَانَ نَافِذًا. وَعَقِيبَ وَضْعِ رَجُلٍ مَتَاعَهُ بِحَضْرَتِهِ وَهُوَ يَنْظُرُ إلَيْهِ يَكُونُ قَبُولًا لِلْوَدِيعَةِ فَيَلْزَمُهُ حِفْظُهَا وَيَضْمَنُ بِتَرْكِهِ. وَالشَّفِيعُ إذَا بَلَغَهُ بَيْعُ مَا يَشْفَعُ فِيهِ فَسَكَتَ كَانَ تَسْلِيمًا، وَذُو الْجَهَالَةِ: أَيْ مَجْهُولُ النَّسَبِ إذَا بِيعَ فَسَكَتَ فَهُوَ إقْرَارٌ بِالرِّقِّ فَلَا يُقْبَلُ دَعْوَاهُ الْحُرِّيَّةَ إلَّا بِبَيِّنَةٍ، زَادَ الطَّحَاوِيُّ فِي اعْتِبَارِ سُكُوتِهِ رِضًا. وَقِيلَ لَهُ قُمْ مَعَ سَيِّدِك فَقَامَ. وَإِذَا يَقول رَجُلٌ لِغَيْرِهِ بِعْ مَتَاعِي فَسَكَتَ ثُمَّ بَاعَهُ بَعْدُ يَكُونُ سُكُوتُهُ قَبُولًا لِلْوَكَالَةِ فَلَا يَكُونُ بَيْعَ فُضُولِيٍّ؛ وَلَيْسَ مِنْ فُرُوعِ هَذِهِ مَا فِي الْجَوَامِعِ: لَوْ اسْتَأْمَرَ بِنْتَ عَمِّهِ لِنَفْسِهِ وَهِيَ بِكْرٌ بَالِغَةٌ فَسَكَتَتْ فَزَوَّجَهَا مِنْ نَفْسِهِ جَازَ؛ لِأَنَّهُ صَارَ وَكِيلًا بِسُكُوتِهَا. وَإِذَا رَأَى مِلْكًا لَهُ مَنْقولا أَوْ عَقَارًا يُبَاعُ فَسَكَتَ حَتَّى قَبَضَهُ الْمُشْتَرِي وَتَصَرَّفَ فِيهِ زَمَانًا سَقَطَ دَعْوَاهُ إيَّاهُ ذَكَرَهُ فِي مُنْيَةِ الْفُقَهَاءِ وَغَيْرِهَا، بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَ سُكُوتَهُ عِنْدَ مُجَرَّدِ الْبَيْعِ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ رِضًا اعْتِرَافًا بِأَنْ لَا حَقَّ فِيهِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِابْنِ أَبِي لَيْلَى. وَاَلَّتِي زِدْتهَا مَسْأَلَةُ الْوَدِيعَةِ، وَالِاسْتِقْرَاءُ يُفِيدُ عَدَمَ الْحَصْرِ وَهَذِهِ الْمَشْهُورَةُ الْمَحْصُورَةُ.

متن الهداية:
قَالَ: (وَإِنْ فَعَلَ هَذَا غَيْرُ وَلِيٍّ) يَعْنِي اسْتَأْمَرَ غَيْرُ الْوَلِيِّ (أَوْ وَلِيُّ غَيْرُهُ أَوْلَى مِنْهُ) (لَمْ يَكُنْ رِضًا حَتَّى تَتَكَلَّمَ بِهِ) لِأَنَّ هَذَا السُّكُوتَ لِقِلَّةِ الِالْتِفَاتِ إلَى كَلَامِهِ فَلَمْ يَقَعْ دَلَالَةً عَلَى الرِّضَا، وَلَوْ وَقَعَ فَهُوَ مُحْتَمَلٌ، وَالِاكْتِفَاءُ بِمِثْلِهِ لِلْحَاجَةِ وَلَا حَاجَةَ فِي حَقِّ غَيْرِ الْأَوْلِيَاءِ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْمُسْتَأْمَرُ رَسُولَ الْوَلِيِّ لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَهُ، وَيُعْتَبَرُ فِي الِاسْتِئْمَارِ تَسْمِيَةُ الزَّوْجِ عَلَى وَجْهٍ تَقَعُ بِهِ الْمَعْرِفَةُ لِتَظْهَرَ رَغْبَتُهَا فِيهِ مِنْ رَغْبَتِهَا عَنْهُ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَإِنْ فَعَلَ هَذَا) أَيْ الِاسْتِئْذَانَ (غَيْرُ وَلِيٍّ) بِأَنْ كَانَ الْأَبُ كَافِرًا أَوْ عَبْدًا أَوْ مُكَاتَبًا (أَوْ وَلِيُّ غَيْرِهِ أَوْلَى مِنْهُ) كَالْأَخِ مَعَ الْأَبِ (لَمْ يَكُنْ) سُكُوتُهَا وَلَا ضَحِكُهَا (رِضًا) بَلْ نُطْقُهَا بِهِ وَهَذَا يَشْمَلُ رَسُولَ الْوَلِيِّ فَأَخْرَجَهُ آخِرًا بِقولهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْمُسْتَأْمَرُ رَسُولَ الْوَلِيِّ؛ لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَهُ فَيَكُونُ سُكُوتُهَا عِنْدَ اسْتِئْذَانِهِ رِضًا. وَعَنْ الْكَرْخِيِّ: يَكْفِي سُكُوتُهَا وَإِنْ كَانَ اسْتَأْمَرَ أَجْنَبِيًّا؛ لِأَنَّ اسْتِحْيَاءَهَا مِنْهُ أَكْثَرُ مِنْهُ مَعَ الْوَلِيِّ. قُلْنَا: السُّكُوتُ فِيهِ لَهُ ظَاهِرٌ آخَرُ وَهُوَ قِلَّةُ الِالْتِفَاتِ إلَى كَلَامِهِ فَصَارَ مُحْتَمَلًا عَلَى السَّوَاءِ فَلَمْ يَقَعْ دَلَالَةً عَلَى الرِّضَا إلَّا لِلْحَاجَةِ وَهِيَ تَنْدَفِعُ بِاعْتِبَارِهِ مَعَ الْأَوْلِيَاءِ؛ لِأَنَّهُمْ هُمْ الْمُزَوِّجُونَ غَالِبًا فَكَانَ اعْتِبَارُهُ فِي مَحَلِّ الْحَاجَةِ، بِخِلَافِ غَيْرِهِمْ إذْ لَا يُعْتَبَرُ الْمُحْتَمَلُ فِي غَيْرِ مَحَلِّ الْحَاجَةِ، وَإِنَّمَا كَانَ حَاجَةً لِأَنَّهَا لَا تَنْطِقُ، فَلَوْ لَمْ يَكْتَفِ بِالْمُحْتَمَلِ تَعَطَّلَتْ مَصَالِحُهَا، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ مَعَ الْأَوْلِيَاءِ أَيْضًا مُحْتَمَلٌ عَلَى السَّوَاءِ. وَيُنَافِيهِ قولهُ لِأَنَّ جَنْبَةَ الرِّضَا فِيهِ غَالِبٌ فَكَانَ الْأَوْلَى الِاقْتِصَارَ عَلَى قولهِ فَلَمْ يَقَعْ دَلَالَةً عَلَى الرِّضَا. وَقول الْمُصَنِّفِ: وَلَوْ وَقَعَ كَانَ مُحْتَمَلًا، ظَاهِرُ الْعِبَارَةِ: وَلَوْ وَقَعَ دَلَالَةً كَانَ مُحْتَمَلًا إنْ أَرَادَ احْتِمَالًا مُسَاوِيًا لَمْ يَصِحَّ جَعْلُهُ دَلَالَةً. وَإِنْ أَرَادَ مَرْجُوحًا كَانَ الرِّضَا مَظْنُونًا فَهُوَ دَلَالَةٌ فَيَكُونُ كَافِيًا مُطْلَقًا لَا يَتَقَيَّدُ بِحَالَةِ كَوْنِ الْمُسْتَأْمَرِ وَلِيًّا. فَإِنْ قِيلَ: يُشْكِلُ عَلَى هَذَا الْحُكْمِ الْمَذْكُورِ إطْلَاقُ قولهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إذْنُهَا أَنْ تَسْكُتَ» وَنَحْوِهِ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِكَوْنِ الْمُسْتَأْمَرِ وَلِيًّا. قُلْنَا: يَتَقَيَّدُ بِالْعُرْفِ وَالْعَادَةِ وَهِيَ أَنَّ الْمُسْتَأْذِنَ لِلْبِكْرِ لَيْسَ إلَّا الْوَلِيُّ بَلْ لَا يَخْلُصُ إلَيْهَا غَيْرُهُ.
قولهُ: (وَيُعْتَبَرُ فِي الِاسْتِئْمَارِ) أَيْ يُعْتَبَرُ فِي كَوْنِ السُّكُوتِ رِضًا فِي الِاسْتِئْمَارِ (تَسْمِيَةُ الزَّوْجِ عَلَى وَجْهٍ تَقَعُ بِهِ الْمَعْرِفَةُ لَهَا) إمَّا بِاسْمِهِ كَأُزَوِّجُكِ مِنْ فُلَانٍ أَوْ فُلَانٍ أَوْ فِي ضِمْنِ الْعَامِّ لَا كُلِّ عَامٍّ نَحْوَ مِنْ جِيرَانِي أَوْ بَنِي عَمِّي وَهُمْ مَحْصُورُونَ مَعْرُوفُونَ لَهَا؛ لِأَنَّ عِنْدَ ذَلِكَ لَا يُعَارِضُ كَوْنَ سُكُوتِهَا رِضًا مُعَارِضٌ، بِخِلَافِ: مِنْ بَنِي تَمِيمٍ أَوْ مِنْ رَجُلٍ؛ لِأَنَّهُ لِعَدَمِ تَسْمِيَتِهِ يَضْعُفُ الظَّنُّ. وَلَوْ زَوَّجَهَا بِحَضْرَتِهَا فَسَكَتَتْ اُخْتُلِفَ فِيهِ، وَالْأَصَحُّ الصِّحَّةُ، وَيَنْبَغِي تَقْيِيدُهُ بِمَا إذَا كَانَ الزَّوْجُ حَاضِرًا أَوْ عَرَفَتْهُ قَبْلَ ذَلِكَ وَلَوْ زَوَّجَهَا بِحَضْرَتِهَا بِغَيْرِ كُفْءٍ فَسَكَتَتْ لَمْ يَكُنْ رِضًا فِي قول مُحَمَّدِ بْنِ سَلَمَةَ، وَهُوَ قول أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ. قَالَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ: وَهُوَ يُوَافِقُ قولهُمَا فِي الصَّغِيرَةِ.

متن الهداية:
(وَلَا تُشْتَرَطُ تَسْمِيَةُ الْمَهْرِ هُوَ الصَّحِيحُ) لِأَنَّ النِّكَاحَ صَحِيحٌ بِدُونِهِ، وَلَوْ زَوَّجَهَا فَبَلَغَهَا الْخَبَرُ فَسَكَتَتْ فَهُوَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا لِأَنَّ وَجْهَ الدَّلَالَةِ فِي السُّكُوتِ لَا يَخْتَلِفُ، ثُمَّ الْمُخْبِرُ إنْ كَانَ فُضُولِيًّا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْعَدَدُ أَوْ الْعَدَالَةُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ خِلَافًا لَهُمَا، وَلَوْ كَانَ رَسُولًا لَا يُشْتَرَطُ إجْمَاعًا وَلَهُ نَظَائِرُ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَلَا يُشْتَرَطُ تَسْمِيَةُ الْمَهْرِ) أَيْ فِي كَوْنِ السُّكُوتِ رِضًا، وَقِيلَ يُشْتَرَطُ لِاخْتِلَافِ الرَّغْبَةِ بِاخْتِلَافِ الصَّدَاقِ قِلَّةً وَكَثْرَةً، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ صِحَّةٌ بِدُونِهِ. وَصَحَّحَ فِي شَرْحِ الْوَافِي أَنَّ الْمُزَوِّجَ إنْ كَانَ الْأَبُ أَوْ الْجَدُّ لَا يُشْتَرَطُ وَإِلَّا اُشْتُرِطَ؛ لِأَنَّ الْأَبَ لَوْ نَزَلَ عَنْ مَهْرِ الْمِثْلِ لَا يَكُونُ إلَّا لِمَصْلَحَةٍ تَرْبُو عَلَيْهِ، فَإِنْ سَمَّى الْمَهْرَ أَقَلَّ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ لَا يَكُونُ سُكُوتُهَا رِضًا.اهـ. وَالْأَوْجَهُ الْإِطْلَاقُ، وَمَا ذُكِرَ مِنْ التَّفْصِيلِ لَيْسَ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ فِي تَزْوِيجِهِ الصَّغِيرَةَ بِحُكْمِ الْجَبْرِ، وَالْكَلَامُ فِي الْكَبِيرَةِ الَّتِي وَجَبَتْ مُشَاوَرَتُهُ لَهَا وَالْأَبُ فِي ذَلِكَ كَالْأَجْنَبِيِّ لَا يَصْدُرُ عَنْ شَيْءٍ مِنْ أَمْرِهَا إلَّا بِرِضَاهَا، غَيْرَ أَنَّ رِضَاهَا يَثْبُتُ بِالسُّكُوتِ عِنْدَ عَدَمِ مَا يُضْعِفُ ظَنَّ كَوْنِهِ رِضًا. وَمُقْتَضَى النَّظَرِ أَنْ لَا يَصِحَّ بِلَا تَسْمِيَةِ الْمَهْرِ لَهَا لِجَوَازِ كَوْنِهَا لَا تَرْضَى إلَّا بِالزَّائِدِ عَلَى مَهْرِ الْمِثْلِ بِكَمِّيَّةٍ خَاصَّةٍ، فَمَا لَمْ تَعْلَمْ ثُبُوتَهَا لَا تَرْضَى، وَصِحَّةُ الْعَقْدِ بِلَا تَسْمِيَةٍ هُوَ فِيمَا إذَا رَضِيَتْ بِالتَّفْوِيضِ وَقَنَعَتْ بِمَهْرِ الْمِثْلِ بِدَلَالَةٍ زَائِدَةٍ عَلَى السُّكُوتِ، وَكَوْنُ الظَّاهِرِ مِنْ الْأَبِ أَنْ لَا يَتْرُكَهُ إلَّا لِمَا يَرْبُو عَلَيْهِ لَا يَقْتَضِي رِضَاهَا بِتَرْكِهِ لِتِلْكَ الْمَصْلَحَةِ فَقَدْ لَا تَخْتَارُ ذَلِكَ، وَالْكَلَامُ فِي الْبِكْرِ الْكَبِيرَةِ، وَالْمَسْأَلَةُ الْمَعْرُوفَةُ فِيهِ مِنْ قول أَبِي حَنِيفَةَ إنَّمَا هُوَ فِي الصَّغِيرَةِ، أَمَّا الْكَبِيرَةُ فَنَفَاذُ تَزْوِيجِ الْأَبِ مَوْقُوفٌ عَلَى رِضَاهَا كَالْوَكِيلِ، غَيْرَ أَنَّ سُكُوتَهَا جُعِلَ دَلَالَةً شَرْعًا، فَإِذَا عَارَضَهُ تَرْكُ التَّسْمِيَةِ أَوْ تَسْمِيَةُ النَّاقِصِ صَارَ مُحْتَمِلًا عَلَى السَّوَاءِ لِكَوْنِهِ لِلرِّضَا أَوْ لِخَوْفِ الرَّدِّ عَلَيْهِ مَعَ عَدَمِهِ فَلَا يَثْبُتُ الرِّضَا بِهِ، وَفِي غَيْرِهِ لَيْسَ الِاحْتِمَالُ مُتَسَاوِيًا بَلْ الرَّاجِحُ جَنْبَةُ الرِّضَا، فَمَا اكْتَفَى إلَّا بِالْمَظْنُونِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ آنِفًا. وَقَدْ يُقَالُ: سُكُوتُهَا إذًا لَمْ يُسَمِّ لَهَا الْوَلِيُّ مَهْرًا مَعَ عِلْمِهَا بِأَنَّهُ يُعْتَبَرُ رِضًا وَيَنْفُذُ الْعَقْدُ عَلَيْهَا تَفْوِيضٌ وَرِضًا بِمَهْرِ الْمِثْلِ وَبِكُلِّ مَهْرٍ، لَكِنْ يُدْفَعُ بِأَنَّ عِلْمَهَا بِأَنَّ سُكُوتَهَا رِضًا مَعَ عَدَمِ التَّسْمِيَةِ بِكُلِّ مَهْرٍ هُوَ مَحَلُّ النِّزَاعِ فَلَا يَلْزَمُ عِلْمُهَا.
وَفِي التَّجْنِيسِ فِي بَابِ مَا يَكُونُ رِضًا وَإِجَازَةً: إذَا ذَكَرَ الزَّوْجَ وَلَمْ يَذْكُرْ الْمَهْرَ فَسَكَتَتْ، إنْ وَهَبَهَا يَعْنِي إنْ فَوَّضَهَا يَنْفُذُ النِّكَاحُ، وَإِنْ زَوَّجَهَا بِمَهْرٍ مُسَمًّى لَا يَنْفُذُ؛ لِأَنَّهُ إذَا وَهَبَهَا فَتَمَامُ الْعَقْدِ بِالزَّوْجِ وَالْمَرْأَةُ عَالِمَةٌ بِهِ، وَإِذَا سَمَّى مَهْرًا فَتَمَامُهُ بِهِ أَيْضًا. وَهُوَ فَرْعُ اشْتِرَاطِ التَّسْمِيَةِ فِي كَوْنِ السُّكُوتِ رِضًا، وَيَجِبُ كَوْنُ الْجَوَابِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى مُقَيَّدًا بِمَا إذَا عَلِمْت بِالتَّفْوِيضِ تَفْرِيعًا عَلَى الْقول الْآخَرِ.
قولهُ: (وَلَوْ زَوَّجَهَا فَبَلَغَهَا الْخَبَرُ فَهُوَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا) مِنْ أَنَّهَا إنْ سَكَتَتْ أَوْ ضَحِكَتْ بِلَا اسْتِهْزَاءٍ أَوْ بَكَتْ بِغَيْرِ صَوْتٍ فَهُوَ رِضًا وَإِلَّا فَلَا.اهـ.
وَقَالَ ابْنُ مُقَاتِلٍ: لَا يَكُونُ السُّكُوتُ بَعْدَ الْعَقْدِ رِضًا؛ لِأَنَّ كَوْنَهُ قَبْلَهُ رِضًا عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ بِالنَّصِّ، وَأَمَّا بَعْدَهُ فَالْحَاجَةُ إلَى الْإِجَازَةِ وَالسُّكُوتُ لَا يَكُونُ إجَازَةً؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ، فَإِنَّ السُّكُوتَ عِنْدَ الِاسْتِئْمَارِ لَيْسَ مُلْزِمًا وَبَعْدَهُ إذَا بَلَغَهَا الْخَبَرُ مُلْزِمٌ فَلَا يَثْبُتُ بِمُجَرَّدِ السُّكُوتِ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ: السُّكُوتُ بَعْدَ الْعَقْدِ رَدَّ ذِكْرَهُ فِي الْبَدَائِعِ، قَالَ: وَهُوَ قول مُحَمَّدٍ، وَالْأَصَحُّ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّ وَجْهَ كَوْنِ السُّكُوتِ رِضًا لَا يَخْتَلِفُ قَبْلَ الْعَقْدِ وَبَعْدَهُ، فَكَمَا كَانَ إذْنًا قَبْلَهُ لِدَلَالَتِهِ عَلَى الرِّضَا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ إجَازَةً بَعْدَهُ لِدَلَالَتِهِ عَلَيْهِ، وَلَا أَثَرَ لِلْفَرْقِ بِكَوْنِهِ مُلْزِمًا وَعَدَمِهِ عَلَى أَنَّ الْحَقَّ أَنَّهُ مُلْزِمٌ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا، غَيْرَ أَنَّهُ فِي تَقَدُّمِ الْعَقْدِ يَثْبُتُ بِهِ اللُّزُومُ فِي الْحَالِ وَقَبْلَهُ يَتَوَقَّفُ عَلَى التَّزْوِيجِ مِنْ الْمُسْتَأْذِنِ. فَإِنْ قِيلَ يُوَجَّهُ قول ابْنِ مُقَاتِلٍ وَرِوَايَةُ أَبِي يُوسُفَ بِالنَّصِّ وَهُوَ رِوَايَةُ الْأَئِمَّةِ السِّتَّةِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: «لَا تُنْكَحُ الْأَيِّمُ حَتَّى تُسْتَأْمَرَ، وَلَا تُنْكَحُ الْبِكْرُ حَتَّى تُسْتَأْذَنَ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَكَيْفَ إذْنُهَا؟ قَالَ: أَنْ تَسْكُتَ» فَهَذَا صَرِيحٌ فِي مَنْعِ النِّكَاحِ قَبْلَ الِاسْتِئْذَانِ. فَالْجَوَابُ أَنَّ الِاتِّفَاقَ عَلَى أَنَّهَا لَوْ صَرَّحَتْ بِالرِّضَا بَعْدَ الْعَقْدِ نُطْقًا جَازَ النِّكَاحُ مَعَ أَنَّهُ مُتَنَاوِلٌ ظَاهِرَ النَّهْيِ، فَعُلِمَ أَنَّ الِاتِّفَاقَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّهْيِ الْمَنْعُ عَنْ تَنْفِيذِ الْعَقْدِ عَلَيْهَا وَإِبْرَامُهُ قَبْلَ إذْنِهَا، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي أَنَّ الْإِجَازَةَ بَعْدَ الْعَقْدِ بِمَاذَا تَكُونُ، فَقُلْنَا: دَلَّ النَّصُّ عَلَى كَوْنِهَا بِمَا كَانَ الْإِذْنُ بِهِ قَبْلَهُ، وَلَا يُعَارِضُهُ النَّهْيُ الْمَذْكُورُ بَعْدَ الِاتِّفَاقِ، عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ مَا ذَكَرْنَا، وَعَلَى هَذَا فَرَّعُوا أَنَّهُ لَوْ اسْتَأْذَنَهَا فِي مُعَيَّنٍ فَرَدَّتْ ثُمَّ زَوَّجَهَا مِنْهُ فَسَكَتَتْ جَازَ عَلَى الْأَصَحِّ، بِخِلَافِ مَا لَوْ بَلَغَهَا فَرَدَّتْ ثُمَّ قَالَتْ رَضِيتُ حَيْثُ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ بَطَلَ بِالرَّدِّ فَالرِّضَا بَعْدَ ذَلِكَ بِعَقْدٍ مَفْسُوخٌ، وَلِذَا اسْتَحْسَنُوا التَّجْدِيدَ عِنْدَ الزِّفَافِ فِيمَا إذَا زَوَّجَ قَبْلَ الِاسْتِئْذَانِ، إذْ غَالِبُ حَالِهِنَّ إظْهَارُ النَّفْرَةِ عِنْدَ فَجْأَةِ السَّمَاعِ. هَذَا وَالْأَوْجَهُ عَدَمُ الصِّحَّةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الرَّدَّ الصَّرِيحَ لَا يَنْزِلُ عَنْ تَضْعِيفِ كَوْنِ ذَلِكَ السُّكُوتِ دَلَالَةَ الرِّضَا، وَلَوْ كَانَتْ قَالَتْ قَدْ كُنْت قُلْتُ لَا أُرِيدُهُ وَلَمْ تَزِدْ عَلَى هَذَا لَا يَجُوزُ النِّكَاحُ لِلْإِخْبَارِ بِأَنَّهَا عَلَى امْتِنَاعِهَا.
فُرُوعٌ:
وَلَوْ زَوَّجَهَا وَلِيَّانِ مُسْتَوِيَانِ كُلٌّ مِنْ وَاحِدٍ فَسَكَتَتْ؛ فَعَنْ مُحَمَّدٍ بَطَلَا كَمَا لَوْ أَجَازَتْهُمَا مَعًا وَهُوَ الْقِيَاسُ؛ لِأَنَّ سُكُوتَهَا رِضًا. وَظَاهِرُ الْجَوَابِ أَنَّهُمَا يَتَوَقَّفَانِ حَتَّى تُجِيزَ أَحَدَهُمَا بِالْقول أَوْ بِالْفِعْلِ، وَنَقَلَهُ فِي الْبَدَائِعِ عَنْ مُحَمَّدٍ فَعَنْهُ حِينَئِذٍ رِوَايَتَانِ. وَلَوْ زَوَّجَهَا مِنْ رَجُلٍ فَبَلَغَهَا فَرَدَّتْ ثُمَّ قَالَتْ فِي مَجْلِسٍ آخَرَ بَعْدَمَا قَالَ لَهَا إنَّ أَقْوَامًا يَخْطُبُونَك: أَنَا رَاضِيَةٌ بِمَا تَفْعَلُ فَزَوَّجَهَا مِنْ الْأَوَّلِ لَا يَنْفُذُ عَلَيْهَا إلَّا بِإِجَازَةٍ مُسْتَقْبَلَةٍ؛ لِأَنَّ تَقْدِيرَ كَلَامِهِ إذَا رَغِبْت عَنْ فُلَانٍ فَإِنَّ أَقْوَامًا آخَرِينَ يَخْطُبُونَك فَلَا يَنْصَرِفُ رِضَاهَا الْآنَ إلَى مَا يَعُمُّ الْأَوَّلَ، وَهَذَا كَمَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثُمَّ قَالَ لِرَجُلٍ إنِّي كَرِهْت فُلَانَةَ فَطَلَّقْتهَا فَزَوِّجْنِي بِامْرَأَةٍ تَرْضَاهَا فَزَوَّجَهُ الْمُطَلَّقَةَ لَا يَصِحُّ. وَكَذَا إذَا بَاعَ عَبْدًا ثُمَّ وَكَّلَ رَجُلًا بِشِرَاءِ عَبْدٍ فَاشْتَرَى لَهُ الْأَوَّلَ لَا يَصِحُّ، وَلَوْ زَوَّجَهَا فَبَلَغَهَا فَقَالَتْ لَا أُرِيدُ النِّكَاحَ فَهُوَ رَدٌّ عَلَى الْأَصَحِّ، وَقولهَا غَيْرُهُ أَحَبُّ إلَيَّ قَبْلَ الْعَقْدِ رَدٌّ، وَبَعْدَهُ إذْنٌ؛ لِأَنَّهُ مُحْتَمَلٌ فَلَا يَجُوزُ قَبْلَ النِّكَاحِ بِالشَّكِّ وَلَا يَبْطُلُ بَعْدَهُ بِالشَّكِّ، كَذَا فِي الْوَاقِعَاتِ. وَقولهَا ذَلِكَ إلَيْك إذْنٌ، وَقولهَا أَنْت أَعْلَمُ لَيْسَ بِإِذْنٍ؛ لِأَنَّهُ تَعْرِيبُ قولهَا أَوْ يُقَارِبُهُ بِالْفَارِسِيَّةِ: توبه دان. وَلَوْ اسْتَأْذَنَهَا فَقَالَتْهُ لَا يَكُونُ إذْنًا؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُذْكَرُ لِلتَّعْرِيضِ لِعَدَمِ الْمَصْلَحَةِ فِيهِ. وَحَقِيقَةُ توبه دان أَنْت بِالْمَصْلَحَةِ أَخْبَرُ أَوْ بِالْأَحْسَنِ أَعْلَمُ، وَهَذَا اخْتِيَارُ الْفَقِيهِ أَبِي اللَّيْثِ، بِخِلَافِ قولهَا ذَلِكَ إلَيْك فَإِنَّهُ إذْنٌ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُذْكَرُ لِلتَّوْكِيلِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ مَسْأَلَةَ: غَيْرُهُ أَحَبُّ إلَيَّ مُشْكِلَةٌ، وَلَا يَخْفَى ضَعْفُ قولهِ لَا يَبْطُلُ بَعْدَهُ بِالشَّكِّ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا يَتِمُّ بَعْدَ الصِّحَّةِ وَهِيَ بَعْدَ الْإِذْنِ.
قولهُ: (وَلَهُ نَظَائِرُ) كَإِخْبَارِ الْوَكِيلِ بِالْعَزْلِ وَالْمَأْذُونِ بِالْحَجْرِ وَالْمَوْلَى بِجِنَايَةِ عَبْدِهِ لِيَكُونَ بَيْعُهُ وَإِعْتَاقُهُ اخْتِيَارًا لِلْفِدَاءِ وَالشَّفِيعُ يَبِيعُ مَا يَشْفَعُ فِيهِ وَبِفَسْخِ الشَّرِكَةِ وَالْمُضَارَبَةِ وَوُجُوبِ الْأَحْكَامِ عَلَى الْمُسْلِمِ الَّذِي لَمْ يُهَاجِرْ فِي دَارِ الْحَرْبِ إنْ كَانَ الْمُخْبِرُ رَسُولًا لَا يُشْتَرَطُ اتِّفَاقًا وَلَوْ فَاسِقًا أَوْ عَبْدًا؛ لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَ الْمُرْسِلِ فَإِخْبَارُهُ كَإِخْبَارِهِ، وَإِنْ كَانَ فُضُولِيًّا فَعَلَى الْخِلَافِ عِنْدَهُ يُشْتَرَطُ فِي لُزُومِ الْحُكْمِ الْعَدَدُ أَوْ عَدَالَةُ الْوَاحِدِ، فَلَوْ أَخْبَرَ غَيْرُ الْمُهَاجِرِ بِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ لَا يَثْبُتُ فِي حَقِّهِ إلَّا بِاثْنَيْنِ أَوْ عَدَالَةِ الْوَاحِدِ.

متن الهداية:
(وَلَوْ اسْتَأْذَنَ الثَّيِّبَ فَلَا بُدَّ مِنْ رِضَاهَا بِالْقول) لِقولهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الثَّيِّبُ تُشَاوَرُ» وَلِأَنَّ النُّطْقَ لَا يُعَدُّ عَيْبًا مِنْهَا وَقَلَّ الْحَيَاءُ بِالْمُمَارَسَةِ فَلَا مَانِعَ مِنْ النُّطْقِ فِي حَقِّهَا.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَإِذَا اسْتَأْذَنَ الثَّيِّبَ) أَيْ الْكَبِيرَةَ، أَمَّا الصَّغِيرَةُ فَلَا اسْتِئْذَانَ فِي حَقِّهَا أَصْلًا كَالْبِكْرِ الصَّغِيرَةِ (فَلَا بُدَّ مِنْ رِضَاهَا بِالْقول لِقولهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الثَّيِّبُ تُشَاوَرُ») وَلَا تَكُونُ الْمُشَاوَرَةُ إلَّا بِالْقول؛ لِأَنَّهَا طَلَبُ الرَّأْيِ، ثُمَّ هِيَ مُفَاعَلَةٌ فَتَقْتَضِي وُجُودَهُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ، وَفِي كُلٍّ مِنْ الْحُكْمِ وَالدَّلِيلِ نَظَرٌ. أَمَّا الدَّلِيلُ فَلِعَدَمِ دَلَالَتِهِ عَلَى لُزُومِ الْقول. سَلَّمْنَا أَنَّ الْمُشَاوَرَةَ طَلَبُ الرَّأْيِ لَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي إفَادَةِ الرَّأْيِ فِعْلُ اللِّسَانِ بَلْ قَدْ يُفَادُ بِغَيْرِهِ وَلُزُومُ الْقول فِي حَقِّ الطَّالِبِ ضَرُورِيٌّ لَا مَفْهُومُ اللُّغَةِ، وَحِينَئِذٍ فَكَوْنُ الْمُشَاوَرَةِ تَسْتَدْعِي جَوَابًا بِاللَّفْظِ مَمْنُوعٌ، وَاسْتَدَلَّ بِقولهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ السَّابِقِ «لَا تُنْكَحُ الْأَيِّمُ حَتَّى تُسْتَأْمَرَ» وَالْأَمْرُ يَكُونُ بِالْقول لَا بِغَيْرِهِ، وَمُنِعَ بِمَا فِي السُّنَنِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا «وَالْبِكْرُ تُسْتَأْمَرُ فِي نَفْسِهَا وَإِذْنُهَا صُمَاتُهَا». وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ خَرَجَ عَنْ حَقِيقَتِهِ هُنَا بِقَرِينَةِ قوله: «وَإِذْنُهَا صُمَاتُهَا» وَيُوجَدُ مِثْلُهَا فِي الثَّيِّبِ فَتَجِبُ حَقِيقَتُهُ. وَأَصْرَحُ مِنْ هَذَا قولهُ فِي حَدِيثٍ آخَرَ «وَالثَّيِّبُ يُعْرِبُ عَنْهَا لِسَانُهَا» لَكِنْ يُشْكِلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْحُكْمَ فِي الْمَذْهَبِ خِلَافُهُ وَهُوَ النَّظَرُ الثَّانِي، بَلْ إمَّا بِهِ كَنَعَمْ أَوْ رَضِيتُ أَوْ بَارَكَ اللَّهُ لَنَا أَوْ أَحْسَنْتَ، وَبِالدَّلَالَةِ كَطَلَبِ الْمَهْرِ أَوْ النَّفَقَةِ أَوْ تَمْكِينِهَا مِنْ الْوَطْءِ وَقَبُولِ التَّهْنِئَةِ وَالضَّحِكِ سُرُورًا لَا اسْتِهْزَاءً، وَحِينَئِذٍ فَلَا فَرْقَ سِوَى أَنَّ سُكُوتَ الْبِكْرِ رِضًا، بِخِلَافِ الثَّيِّبِ لَا بُدَّ فِي حَقِّهَا مِنْ دَلَالَةٍ زَائِدَةٍ عَلَى مُجَرَّدِ السُّكُوتِ. وَالْحَقُّ أَنَّ الْكُلَّ مِنْ قَبِيلِ الْقول، إلَّا التَّمْكِينَ فَيَثْبُتُ بِدَلَالَةِ نَصِّ إلْزَامِ الْقول؛ لِأَنَّهُ فَوْقَ الْقول.

متن الهداية:
(وَإِذَا زَالَتْ بَكَارَتُهَا بِوَثْبَةٍ أَوْ حَيْضَةٍ أَوْ جِرَاحَةٍ أَوْ تَعْنِيسٍ فَهِيَ فِي حُكْمِ الْأَبْكَارِ) لِأَنَّهَا بِكْرٌ حَقِيقَةً لِأَنَّ مُصِيبَهَا أَوَّلُ مُصِيبٍ لَهَا وَمِنْهُ الْبَاكُورَةُ وَالْبُكْرَةُ وَلِأَنَّهَا تَسْتَحْيِي لِعَدَمِ الْمُمَارَسَةِ (وَلَوْ زَالَتْ) بَكَارَتُهَا (بِزِنًا فَهِيَ كَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ) وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيُّ: لَا يُكْتَفَى بِسُكُوتِهَا لِأَنَّهَا ثَيِّبٌ حَقِيقَةً لِأَنَّ مُصِيبَهَا عَائِدٌ إلَيْهَا وَمِنْهُ الْمَثُوبَةُ وَالْمَثَابَةُ وَالتَّثْوِيبُ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ النَّاسَ عَرَفُوهَا بَكْرًا فَيُعَيِّبُونَهَا بِالنُّطْقِ فَتَمْتَنِعُ عَنْهُ فَيُكْتَفَى بِسُكُوتِهَا كَيْ لَا تَتَعَطَّلَ عَلَيْهَا مَصَالِحُهَا، بِخِلَافِ مَا إذَا وُطِئَتْ بِشُبْهَةٍ أَوْ بِنِكَاحٍ فَاسِدٍ لِأَنَّ الشَّرْعَ أَظْهَرَهُ حَيْثُ عَلَّقَ بِهِ أَحْكَامًا، أَمَّا الزِّنَا فَقَدْ نُدِبَ إلَى سَتْرِهِ، حَتَّى لَوْ اُشْتُهِرَ حَالُهَا لَا يُكْتَفَى بِسُكُوتِهَا.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَإِذَا زَالَتْ بَكَارَتُهَا إلَخْ) أَيْ إذَا زَالَتْ بِوَثْبَةٍ أَوْ حَيْضَةٍ أَوْ جِرَاحَةٍ أَوْ تَعْنِيسٍ وَهُوَ أَنْ تَصِيرَ عَانِسًا: أَيْ نَصَفًا لَمْ تَتَزَوَّجْ، أَوْ خَرْقَ اسْتِنْجَاءٍ أَوْ عُودٍ أَوْ حِمْلٍ ثَقِيلٍ تُزَوَّجُ كَالْأَبْكَارِ اتِّفَاقًا، وَكَذَا إذَا فَارَقَهَا الزَّوْجُ لِجَبٍّ أَوْ عُنَّةٍ أَوْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ وَلَوْ بَعْدَ الْخَلْوَةِ، وَهَذَا مِمَّا تُخَالِفُ حُكْمَ الْخَلْوَةِ وَالدُّخُولِ، وَكَذَا إذَا مَاتَ بَعْدَ الْخَلْوَةِ قَبْلَ الدُّخُولِ؛ لِأَنَّهَا فِي هَذِهِ الصُّوَرِ كُلِّهَا بِكْرٌ حَقِيقَةً؛ لِأَنَّهَا لَمْ يُصِبْهَا مُصِيبٌ، وَلِهَذَا لَوْ أَوْصَى بِأَبْكَارِ بَنِي فُلَانٍ دَخَلَتْ هَذِهِ وَمَنَعَ بِالْجَارِيَةِ تُبَاعُ عَلَى أَنَّهَا بِكْرٌ حَيْثُ تُرَدُّ إذَا وُجِدَتْ زَائِلَةَ الْبَكَارَةِ بِوَثْبَةٍ وَنَحْوِهَا، فَلَوْ كَانَتْ بِكْرًا لَمْ تُرَدَّ. وَالْجَوَابُ أَنَّ الْبِكْرَ يُقَالُ عَلَى مَنْ لَمْ يُصِبْهَا مُصِيبٌ، وَمِنْهُ الْبَاكُورَةُ لِأَوَّلِ الثِّمَارِ وَالْبُكْرَةُ لِأَوَّلِ النَّهَارِ، وَعَلَى الْعَذْرَاءِ وَهِيَ أَخَصُّ أَوْ هِيَ مَنْ لَمْ يُصِبْهَا مُصِيبٌ وَمِنْ أَفْرَادِهِ قَائِمَةُ الْعُذْرَةِ فَهُوَ مُتَوَاطِئٌ، وَحُمِلَ عَلَى هَذَا الْفَرْدُ فِي الْبَيْعِ الْمَبْنِيِّ عَلَى الْمُشَاحَحَةِ فَتُرَدُّ لِفَوَاتِ الْعُذْرَةِ وَهِيَ تِلْكَ الْجِلْدَةُ. وَعَلَى الْأَعَمِّ الْأَوْسَعِ فِي النِّكَاحِ الْمَبْنِيِّ عَلَى التَّوْسِعَةِ وَشِدَّةِ التَّثَبُّتِ حَتَّى لَزِمَ مِنْ الْهَازِلِ وَالْمُكْرَهِ وَبِصِيغَةِ الْأَمْرِ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ. عَلَى أَنَّهُ قَدْ قِيلَ إذَا اعْتَرَفَ الْمُشْتَرِي بِأَنَّ زَوَالَهَا بِوَثْبَةٍ لَا تُرَدُّ، وَلِأَنَّ الْعَادَةَ إرَادَةُ الْعُذْرَةِ فِي اشْتِرَاطِ الْبَكَارَةِ فِي الْبَيْعِ فَيَتَقَيَّدُ بِهَا. وَأَيْضًا لَوْ أَوْصَى لِأَبْكَارِ بَنِي فُلَانٍ دَخَلَتْ هَذِهِ. وَأَيْضًا الِاسْتِحْيَاءُ قَائِمٌ وَأَنَّهَا عِلَّةٌ مَنْصُوصَةٌ فَيَثْبُتُ الْحُكْمُ فِي مَوَاضِعِ وُجُودِهَا بِالنَّصِّ، وَفِيهِ نَظَرٌ إذْ الِاسْتِحْيَاءُ حِكْمَةٌ نُصَّ عَلَيْهَا لَا يُنَاطُ الْحُكْمُ عَلَيْهَا لِعَدَمِ انْضِبَاطِهَا، وَلِذَا لَوْ فُرِضَ أَنَّ اسْتِحْيَاءَ مَنْ زَالَتْ بَكَارَتُهَا بِزِنًا أَشَدُّ مِنْ الْعَذْرَاءِ لَا تُزَوَّجُ كَالْبِكْرِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانَتْ هِيَ الْمَقْصُودَةُ مِنْ شَرْعِ الْحُكْمِ لَا يُنَاطُ بِهَا إذَا كَانَ فِيهَا مَرَاتِبُ مُتَفَاوِتَةٌ أَوْ خَفَاءٌ فِي تَحَقُّقِهَا فِي بَعْضِ الْمَحَالِّ، وَلَا يُنَاطُ إلَّا بِظَاهِرٍ ضَابِطٍ لِكُلِّ مَرْتَبَةٍ وَهُوَ الْمُسَمَّى بِالْمَظِنَّةِ فَيَثْبُتُ الْحُكْمُ عِنْدَ ثُبُوتِهِ مِنْ غَيْرِ الْتِفَاتٍ إلَى الْحِكْمَةِ وُجِدَتْ أَوْ عُدِمَتْ، وَلَوْ اُعْتُبِرَ هُنَا حَيَاءُ الْبِكْرِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُنْضَبِطُ اتَّحَدَ الْحَاصِلُ إذْ يَسْتَلْزِمُ قِيَامَ الْبَكَارَةِ فِي ثُبُوتِ الْحُكْمِ، وَإِنْ زَالَتْ بِزِنًا مَشْهُورٍ أَوْ وَطْءٍ بِشُبْهَةٍ أَوْ نِكَاحٍ فَاسِدٍ زُوِّجَتْ كَالثَّيِّبَاتِ اتِّفَاقًا، وَإِنْ زَالَتْ بِزِنًا غَيْرِ مَشْهُورٍ فَهُوَ مَحَلُّ الْخِلَافِ، فَعِنْدَهُمَا وَالشَّافِعِيِّ تُزَوَّجُ كَالثَّيِّبِ وَعِنْدَهُ كَالْبِكْرِ. وَجْهُ قولهِمَا أَنَّهَا ثَيِّبٌ حَقِيقَةً فَإِنَّ مُصِيبَهَا عَائِدٌ إلَيْهَا، وَمِنْهُ الْمَثُوبَةُ؛ لِأَنَّهَا جَزَاءُ عَمَلِهِ يَعُودُ إلَيْهِ، وَالْمَثَابَةُ الْمَوْضِعُ الَّذِي يَرْجِعُ إلَيْهِ حَتَّى تَدْخُلَ فِي الْوَصِيَّةِ لِلثَّيِّبَاتِ مِنْ بَنَاتِ فُلَانٍ. وَلَهُ أَنَّهَا عُرِفَتْ بِكْرًا فَتَمْتَنِعُ عَنْ النُّطْقِ مَخَافَةَ أَنْ يُعْلَمَ زِنَاهَا حَيَاءً مِنْ ظُهُورِهِ، وَذَلِكَ أَشَدُّ مِنْ حَيَائِهَا بِكْرًا مِنْ إظْهَارِ الرَّغْبَةِ فَيَثْبُتُ الْجَوَازُ بِدَلَالَةِ نَصِّ سُكُوتِ الْبِكْرِ، وَهَذَا يُفِيدُ لَوْ كَانَ الْحَيَاءُ مُطْلَقًا هُوَ الْعِلَّةُ لَكِنَّهُ حَيَاءُ الْبِكْرِ الصَّادِرِ عَنْ كَرَمِ الطَّبِيعَةِ فَلَا يَلْحَقُ بِهِ الْمُتَنَازَعُ فِيهِ. وَبِهِ يَنْدَفِعُ جَوَابُ مَا أَوْرَدَ مِنْ قولهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تُنْكَحُ الْأَيِّمُ حَتَّى تُسْتَأْمَرَ، وَالثَّيِّبُ يُعْرِبُ عَنْهَا لِسَانُهَا» مِنْ أَنَّهُ عَامٌّ خُصَّ مِنْهُ الثَّيِّبُ الْمَجْنُونَةُ وَالْأَمَةُ فَيُخَصُّ بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ جَعْلِ الشَّارِعِ الْحَيَاءَ عِلَّةً وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي الْمُزَنِيَّةِ، وَنَفْسُ الْمُجِيبِ صَرَّحَ بَعْدَهُ فِي مَسْأَلَةِ ثُبُوتِ الْوِلَايَةِ عَلَى الثَّيِّبِ الصَّغِيرَةِ بِأَنَّ الْأَيِّمَ مَنْ لَا زَوْجَ لَهَا وَإِنْ كَانَتْ بِكْرًا بَعْدَمَا نَقَلَ قول مُحَمَّدٍ لَوْ أَوْصَى لِأَيَامَى بَنِي فُلَانٍ لَا تَدْخُلُ الْأَبْكَارُ وَصَحَّحَ دُخُولَهُنَّ كَقول الْكَرْخِيِّ.اهـ. وَالْأَوْلَى أَنَّ الْفَرْضَ أَنَّ الزِّنَا غَيْرُ مَشْهُورٍ، فَفِي إلْزَامِهَا النُّطْقَ دَلِيلُ الْمَنْعِ مِنْ إشَاعَةِ الْفَاحِشَةِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ، وَالْمَنْعُ يُقَدَّمُ عِنْدَ التَّعَارُضِ فَيُعْمَلُ دَلِيلُ نُطْقِ الثَّيِّبِ فِيمَا وَرَاءَ هَذِهِ، وَأَيْضًا الظَّاهِرُ مِنْ مُرَادِ الشَّارِعِ مِنْ الْبِكْرِ الْمُعْتَبَرِ سُكُوتُهَا رِضَا الْبِكْرِ ظَاهِرًا كَمَا هُوَ فِي أَمْثَالِهِ لَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَلِذَا لَمْ يُوجِب عَلَى الْوَلِيِّ اسْتِكْشَافَ حَالِهَا عِنْدَ اسْتِئْذَانِهَا، أَهِيَ بِكْرٌ الْآنَ لِيَكْتَفِيَ بِسُكُوتِهَا أَمْ لَا؟ اكْتَفَى بِالْبِنَاءِ عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي لَمْ يَظْهَرْ خِلَافًا، وَالْكَلَامُ هُنَا فِي ثُيُوبَةٍ بِزِنًا لَمْ يَظْهَرْ فَيَجِبُ كَوْنُهَا بِكْرًا شَرْعًا، وَلِذَا قُلْنَا لَوْ ظَهَرَ لَا يَكْفِي سُكُوتُهَا.

متن الهداية:
(وَإِذَا قَالَ الزَّوْجُ بَلَغَك النِّكَاحُ فَسَكَتَتْ وَقَالَتْ رَدَدْتُ فَالْقول قولهَا) وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ: الْقول قولهُ لِأَنَّ السُّكُوتَ أَصْلٌ وَالرَّدَّ عَارِضٌ، فَصَارَ كَالْمَشْرُوطِ لَهُ الْخِيَارُ إذَا ادَّعَى الرَّدَّ بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ، وَنَحْنُ نَقول إنَّهُ يَدَّعِي لُزُومَ الْعَقْدِ وَتَمَلُّكَ الْبُضْعِ وَالْمَرْأَةُ تَدْفَعُهُ فَكَانَتْ مُنْكِرَةً، كَالْمُودِعِ إذَا ادَّعَى رَدَّ الْوَدِيعَةِ، بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الْخِيَارِ لِأَنَّ اللُّزُومَ قَدْ ظَهَرَ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ، وَإِنْ أَقَامَ الزَّوْجُ الْبَيِّنَةَ عَلَى سُكُوتِهَا ثَبَتَ النِّكَاحُ لِأَنَّهُ نَوَّرَ دَعْوَاهُ بِالْحُجَّةِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ فَلَا يَمِينَ عَلَيْهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَهِيَ مَسْأَلَةُ الِاسْتِحْلَافِ فِي الْأَشْيَاءِ السِّتَّةِ، وَسَتَأْتِيك فِي الدَّعْوَى إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَإِذَا قَالَ الزَّوْجُ بَلَغَك إلَخْ) صُورَتُهَا: ادَّعَى عَلَى بِكْرٍ بَالِغَةٍ أَنَّ وَلِيَّهَا زَوَّجَهَا مِنْهُ قَبْلَ اسْتِئْذَانِهَا فَلَمَّا بَلَغَهَا سَكَتَتْ وَقَالَتْ بَلْ رَدَدْت فَالْقول لَهَا عِنْدَنَا.
وَقَالَ زُفَرُ: لَهُ لِتَمَسُّكِهِ بِالْأَصْلِ وَهُوَ عَدَمُ الْكَلَامِ. وَنَظِيرُ هَذَا الْخِلَافِ الْخِلَافُ فِيمَا إذَا قَالَ سَيِّدُ الْعَبْدِ إنْ لَمْ تَدْخُلْ الدَّارَ الْيَوْمَ فَأَنْتَ حُرٌّ فَمَضَى الْيَوْمُ وَقَالَ الْعَبْدُ لَمْ أَدْخُلْ وَكَذَّبَهُ الْمَوْلَى فَالْقول قول الْمَوْلَى عِنْدَنَا، وَعِنْدَهُ قول الْعَبْدِ، وَهَذِهِ الْعِبَارَةُ أَوْلَى مِنْ قولهِ فِي الْمَبْسُوطِ: إنَّ الْخِلَافَ فِي مَسْأَلَةِ النِّكَاحِ بِنَاءٌ عَلَى الْخِلَافِ فِي مَسْأَلَةِ الْعَبْدِ إذْ لَيْسَ كَوْنُ أَحَدِهِمَا بِعَيْنِهِ مَبْنَى الْخِلَافِ فِي الْآخَرِ بِأَوْلَى مِنْ الْقَلْبِ بَلْ الْخِلَافُ فِيهِمَا مَعًا ابْتِدَاءً. وَوَجْهُ قولهِ فِيهِمَا التَّمَسُّكُ بِالْأَصْلِ الْمُتَبَادَرِ وَهُوَ عَدَمُ الدُّخُولِ وَعَدَمُ الْكَلَامِ قِيَاسًا عَلَى الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ مِنْ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ بِالْخِيَارِ إذَا ادَّعَى بَعْدَ مُدَّةِ الْخِيَارِ رَدَّ الْبَيْعِ قَبْلَ مُضِيِّهَا وَقَالَ الْبَائِعُ بَلْ سَكَتَ حَتَّى انْقَضَتْ فَإِنَّ الْقول لِلْبَائِعِ اتِّفَاقًا لِتَمَسُّكِهِ بِالْأَصْلِ، وَالشَّفِيعُ إذَا قَالَ عَلِمْت بِالْبَيْعِ أَمْسِ وَطَلَبْت الشُّفْعَةَ وَقَالَ الْمُشْتَرِي بَلْ سَكَتَ الْقول قول الْمُشْتَرِي، أَمَّا لَوْ قَالَ طَلَبْت الشُّفْعَةَ حِينَ عَلِمْت بِالْبَيْعِ فَالْقول لَهُ، وَالْمُزَوَّجَةُ صَغِيرَةٌ مِنْ الْوَلِيِّ غَيْرِ الْأَبِ وَالْجَدِّ إذَا قَالَتْ بَعْدَ الْبُلُوغِ كُنْت رَدَدْت حِينَ بَلَغَنِي الْخَبَرُ بَعْدَ الْبُلُوغِ أَوْ حِينَ بَلَغْت وَكَذَّبَهَا الزَّوْجُ فَإِنَّ الْقول لَهُ. وَعِنْدَنَا الْقول لِمَنْ يَشْهَدُ لَهُ الظَّاهِرُ، سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ الظَّاهِرُ هُوَ الْأَصْلُ بِحَسَبِ مَا يَتَبَادَرُ أَوْ بِحَسَبِ الْمَعْنَى، وَلَا يَخْفَى تَرَجُّحُ هَذَا الِاعْتِبَارِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَقَدْ ادَّعَى بِدَعْوَاهُ سُكُوتَهَا تَمَلُّكَ بُضْعِهَا مِنْ غَيْرِ ظَاهِرٍ مَعَهُ وَهِيَ تُنْكِرُ، وَالظَّاهِرُ الِاسْتِمْرَارُ عَلَى الْحَالَةِ الْمُتَيَقَّنَةِ مِنْ عَدَمِ وُرُودِ مِلْكٍ عَلَيْهَا الَّذِي هُوَ الْأَصْلُ، فَكَانَتْ هِيَ مُتَمَسِّكَةً بِأَصْلِ مَعْنًى هُوَ الظَّاهِرُ فَكَانَ الْقول لَهَا كَالْمُودَعِ يَدَّعِي رَدَّ الْوَدِيعَةِ وَالْمُودِعِ يُنْكِرُ فَإِنَّ الْقول لَمُدَّعِي الرَّدِّ وَإِنْ كَانَ مُدَّعِيًا صُورَةً لِتَمَسُّكِهِ بِالْأَصْلِ الظَّاهِرِ وَهُوَ فَرَاغُ ذِمَّتِهِ لِكَوْنِهِ ظَاهِرًا لَا لِكَوْنِهِ أَصْلًا، بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الْخِيَارِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ ثَبَتَ صَحِيحًا فِي الْأَصْلِ وَقَدْ لَزِمَ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ ظَاهِرًا فَالتَّمَسُّكُ بِعَدَمِهِ تَمَسُّكٌ بِالظَّاهِرِ، وَكَذَا الْمُزَوَّجَةُ صَغِيرَةً تَدَّعِي زَوَالَ مِلْكِهِ بَعْدَمَا نَفَذَ عَلَيْهَا حَالِ صِغَرِهَا يَقِينًا وَالزَّوْجُ يُنْكِرُ وَمِثْلُهُ الشَّفِيعُ. ثُمَّ إنْ أَقَامَ الزَّوْجُ الْبَيِّنَةَ عَلَى سُكُوتِهَا عَمِلَ بِهَا؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَقُمْ عَلَى النَّفْيِ بَلْ عَلَى حَالَةٍ وُجُودِيَّةٍ فِي مَجْلِسٍ خَاصٍّ يُحَاطُ بِطَرَفَيْهِ، أَوْ هُوَ نَفْيٌ يُحِيطُ بِهِ الشَّاهِدُ فَيَقْبَلُ، كَمَا لَوْ ادَّعَتْ أَنَّ زَوْجَهَا تَكَلَّمَ بِمَا هُوَ رِدَّةٌ فِي مَجْلِسٍ فَأَقَامَهَا عَلَى عَدَمِ التَّكَلُّمِ فِيهِ يُقْبَلُ، وَكَذَا إذَا قَالَ الشُّهُودُ كُنَّا عِنْدَهَا وَلَمْ نَسْمَعْهَا تَتَكَلَّمُ ثَبَتَ سُكُوتُهَا بِذَلِكَ، كَذَا فِي الْجَوَامِعِ. وَإِنْ أَقَامَاهَا فَبَيِّنَتُهَا أَوْلَى لِإِثْبَاتِ الزِّيَادَةِ: أَعْنِي الرَّدَّ، فَإِنَّهُ زَائِدٌ عَلَى السُّكُوتِ، وَلَوْ كَانَ أَقَامَهَا عَلَى أَنَّهَا رَضِيَتْ أَوْ أَجَازَتْ حِينَ عَلِمَتْ تَرَجَّحَتْ بَيِّنَتُهُ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْإِثْبَاتِ وَزِيَادَةِ بَيِّنَتِهِ بِإِثْبَاتِ اللُّزُومِ. كَذَا فِي الشُّرُوحِ. وَعَزَاهُ فِي النِّهَايَةِ لِلتُّمُرْتَاشِيِّ، وَكَذَا هُوَ فِي غَيْرِ نُسْخَةٍ مِنْ الْفِقْهِ، لَكِنْ فِي الْخُلَاصَةِ نَقْلًا عَنْ أَدَبِ الْقَاضِي لِلْخَصَّافِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: لَوْ أَقَامَ الْأَبُ أَوْ الزَّوْجُ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْإِجَازَةِ وَالْمَرْأَةُ عَلَى الرَّدِّ فَبَيِّنَتُهَا أَوْلَى، فَتَحَصَّلُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ اخْتِلَافُ الْمَشَايِخِ، وَلَعَلَّ وَجْهَهُ أَنَّ السُّكُوتَ لَمَّا كَانَ مِمَّا تَتَحَقَّقُ الْإِجَازَةُ بِهِ لَمْ يَلْزَمْ مِنْ الشَّهَادَةِ بِالْإِجَازَةِ كَوْنُهَا بِأَمْرٍ زَائِدٍ عَلَى السُّكُوتِ مَا لَمْ يُصَرِّحُوا بِذَلِكَ فَلَمْ يَجْزِمْ بِاسْتِوَاءِ الْبَيِّنَتَيْنِ فِي الْإِثْبَاتِ. وَهَذَا كُلُّهُ إذَا كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ، فَلَوْ قَالَتْ لَمْ أُجْزِهِ بَعْدَ الدُّخُولِ لَمْ تُصَدَّقْ عَلَى ذَلِكَ إلَّا إنْ كَانَتْ مُكْرَهَةً فَحِينَئِذٍ الْقول لَهَا لِظُهُورِ دَلِيلِ السَّخَطِ دُونَ الرِّضَا، وَلَا يُقْبَلُ عَلَيْهَا قول وَلِيِّهَا بِالرِّضَا؛ لِأَنَّهُ يُقِرُّ عَلَيْهَا بِثُبُوتِ الْمِلْكِ، وَإِقْرَارُهُ عَلَيْهَا بِالنِّكَاحِ بَعْدَ بُلُوغِهَا غَيْرُ صَحِيحٍ بِالِاتِّفَاقِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ إلْزَامَ الْعَقْدِ عَلَيْهَا فَلَا يُعْتَبَرُ إقْرَارُهُ فِي لُزُومِهِ أَيْضًا كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ. وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لِلزَّوْجِ بَيِّنَةٌ تَذْهَبُ مِنْ عِصْمَتِهِ مِنْ غَيْرِ يَمِينٍ تَلْزَمُ بِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَعِنْدَهُمَا عَلَيْهَا، فَإِنْ نَكَلَتْ بَقِيَ النِّكَاحُ عِنْدَهُمَا وَهِيَ مَسْأَلَةُ الِاسْتِحْلَافِ فِي الْأَشْيَاءِ السِّتَّةِ، وَزِيدَ عَلَيْهَا دَعْوَى الْأَمَةِ أَنَّهَا أَسْقَطَتْ مُسْتَبِينَ الْخَلْقِ فَصَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ، وَجَمَعْتهَا فِي هَذَيْنِ الْبَيْتَيْنِ:
نِكَاحٌ وَفَيْئَةُ إيلَائِهِ ** وَرِقٌّ وَرَجْعُ وَلَاءِ نَسَبْ

وَدَعْوَى الْإِمَاءِ أُمُومِيَّةً ** فَلَيْسَ بِهَا مِنْ يَمِينٍ وَجَبْ

وَسَيَأْتِي فِي الدَّعْوَى صُوَرُهَا، وَالْفَتْوَى عَلَى قولهِمَا فِيهَا. وَقِيلَ يَتَأَمَّلُ الْقَاضِي فِي حَالِ الْمُدَّعِي، فَإِنْ ظَهَرَ لَهُ مِنْهُ التَّعَنُّتُ قَضَى بِقولهِ وَإِلَّا بِقولهِمَا.
وَفِي الْغَايَةِ مَعْزِيًّا إلَى فَتَاوَى الْخَاصِّيِّ أَنَّهُ لَوْ ادَّعَى رَجُلٌ عَلَى آخَرَ أَنَّهُ زَوَّجَهُ بِنْتَه الصَّغِيرَةَ فَأَنْكَرَ يَحْلِفُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَفِي الْكَبِيرَةِ لَا اعْتِبَارَ بِالْإِقْرَارِ فِيهِمَا. وَاسْتَشْكَلَ عَلَى قولهِ؛ لِأَنَّ امْتِنَاعَ الْيَمِينِ عِنْدَهُ لِامْتِنَاعِ الْبَذْلِ لَا لِامْتِنَاعِ الْإِقْرَارِ، أَلَا تَرَى أَنَّ امْرَأَةً لَوْ أَقَرَّتْ لِرَجُلٍ بِنِكَاحٍ نَفَذَ إقْرَارُهَا وَمَعَ هَذَا لَا تَحْلِفُ لَوْ ادَّعَى عَلَيْهَا فَأَنْكَرَتْ فَالْأَشْبَهُ أَنْ يَكُونَ هَذَا قولهُمَا.

متن الهداية:
(وَيَجُوزُ نِكَاحُ الصَّغِيرِ وَالصَّغِيرَةِ إذَا زَوَّجَهُمَا الْوَلِيُّ بِكْرًا كَانَتْ الصَّغِيرَةُ أَوْ ثَيِّبًا وَالْوَلِيُّ هُوَ الْعَصَبَةُ) وَمَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ يُخَالِفُنَا فِي غَيْرِ الْأَبِ، وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي غَيْرِ الْأَبِ وَالْجَدِّ، وَفِي الثَّيِّبِ الصَّغِيرَةِ أَيْضًا. وَجْهُ قول مَالِكٍ أَنَّ الْوِلَايَةَ عَلَى الْحُرَّةِ بِاعْتِبَارِ الْحَاجَةِ وَلَا حَاجَةَ هُنَا لِانْعِدَامِ الشَّهْوَةِ، إلَّا أَنَّ وِلَايَةَ الْأَبِ ثَبَتَتْ نَصًّا بِخِلَافِ الْقِيَاسِ وَالْجَدُّ لَيْسَ فِي مَعْنَاهُ فَلَا يُلْحَقُ بِهِ. قُلْنَا: لَا بَلْ هُوَ مُوَافِقٌ لِلْقِيَاسِ لِأَنَّ النِّكَاحَ يَتَضَمَّنُ الْمَصَالِحَ وَلَا تَتَوَفَّرُ إلَّا بَيْنَ الْمُتَكَافِئَيْنِ عَادَةً وَلَا يَتَّفِقُ الْكُفْءُ فِي كُلِّ زَمَانٍ، فَأَثْبَتْنَا الْوِلَايَةَ فِي حَالَةِ الصِّغَرِ إحْرَازًا لِلْكُفْءِ. وَجْهُ قول الشَّافِعِيِّ أَنَّ النَّظَرَ لَا يَتِمُّ بِالتَّفْوِيضِ إلَى غَيْرِ الْأَبِ وَالْجَدِّ لِقُصُورِ شَفَقَتِهِ وَبُعْدِ قَرَابَتِهِ وَلِهَذَا لَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِي الْمَالِ مَعَ أَنَّهُ أَدْنَى رُتْبَةً، فَلَأَنْ لَا يَمْلِكَ التَّصَرُّفَ فِي النَّفْسِ وَإِنَّهُ أَعْلَى وَأَوْلَى. وَلَنَا أَنَّ الْقَرَابَةَ دَاعِيَةٌ إلَى النَّظَرِ كَمَا فِي الْأَبِ وَالْجَدِّ، وَمَا فِيهِ مِنْ الْقُصُورِ أَظْهَرْنَاهُ فِي سَلْبِ وِلَايَةِ الْإِلْزَامِ، بِخِلَافِ التَّصَرُّفِ فِي الْمَالِ فَإِنَّهُ يَتَكَرَّرُ فَلَا يُمْكِنُ تَدَارُكُ الْخَلَلِ فَلَا تُفِيدُ الْوِلَايَةُ إلَّا مُلْزِمَةً وَمَعَ الْقُصُورِ لَا تَثْبُتُ وِلَايَةُ الْإِلْزَامِ. وَجْهُ قولهِ فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ أَنَّ الثِّيَابَةَ سَبَبٌ لِحُدُوثِ الرَّأْيِ لِوُجُودِ الْمُمَارَسَةِ فَأَدَرْنَا الْحُكْمَ عَلَيْهَا تَيْسِيرًا. وَلَنَا مَا ذَكَرْنَا مِنْ تَحَقُّقِ الْحَاجَةِ وَوُفُورِ الشَّفَقَةِ، وَلَا مُمَارَسَةَ تُحْدِثُ الرَّأْيَ بِدُونِ الشَّهْوَةِ فَيُدَارُ الْحُكْمُ عَلَى الصِّغَرِ، ثُمَّ الَّذِي يُؤَيِّدُ كَلَامَنَا فِيمَا تَقَدَّمَ قولهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «النِّكَاحُ إلَى الْعَصَبَاتِ» مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ وَالتَّرْتِيبُ فِي الْعَصَبَاتِ فِي وِلَايَةِ النِّكَاحِ كَالتَّرْتِيبِ فِي الْإِرْثِ وَالْأَبْعَدُ مَحْجُوبٌ بِالْأَقْرَبِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَيَجُوزُ نِكَاحُ الصَّغِيرِ وَالصَّغِيرَةِ إذَا زَوَّجَهُمَا الْوَلِيُّ) لِقولهِ تَعَالَى: {وَاَللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} فَأَثْبَتَ الْعِدَّةَ لِلصَّغِيرَةِ وَهُوَ فَرْعُ تَصَوُّرِ نِكَاحِهَا شَرْعًا فَبَطَلَ بِهِ مَنْعُ ابْنِ شُبْرُمَةَ وَأَبِي بَكْرِ بْنِ الْأَصَمِّ مِنْهُ، وَتَزْوِيجُ أَبِي بَكْرٍ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَهِيَ بِنْتُ سِتٍّ نَصٌّ قَرِيبٌ مِنْ الْمُتَوَاتِرِ، وَتَزَوُّجُ قُدَامَةُ بْنُ مَظْعُونٍ بِنْتَ الزُّبَيْرِ يَوْمَ وُلِدَتْ مَعَ عِلْمِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ نَصٌّ فِي فَهْمِ الصَّحَابَةِ عَدَمَ الْخُصُوصِيَّةِ فِي نِكَاحِ عَائِشَةَ.
قولهُ: (وَالْوَلِيُّ هُوَ الْعَصَبَةُ، وَمَالِكٌ يُخَالِفُنَا فِي غَيْرِ الْأَبِ وَالشَّافِعِيُّ فِي غَيْرِ الْأَبِ وَالْجَدِّ وَفِي الثَّيِّبِ الصَّغِيرَةِ) فَعِنْدَهُ لَا يَلِي عَلَيْهَا أَحَدٌ حَتَّى تَبْلُغَ فَتُزَوَّجَ بِإِذْنِهَا وَقَدْ ذَكَرْنَاهَا. وَجْهُ قول مَالِكٍ أَنَّ الْوِلَايَةَ عَلَى الْحُرَّةِ إنَّمَا تَثْبُتُ لِحَاجَتِهَا وَلَا حَاجَةَ قَبْلَ الْبُلُوغِ لِعَدَمِ الشَّهْوَةِ، إلَّا أَنَّ وِلَايَةَ الْأَبِ ثَبَتَتْ نَصًّا بِخِلَافِ الْقِيَاسِ؛ لِأَنَّ أَثَرَ الْحُرِّيَّةِ دَفَعَ سَلْطَنَةَ الْغَيْرِ وَهُوَ تَزْوِيجُ أَبِي بَكْرٍ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَهِيَ بِنْتُ سِتٍّ، وَالْجَدُّ لَيْسَ فِي مَعْنَى الْأَبِ لِيَلْحَقَ بِهِ دَلَالَةً لِقُصُورِ شَفَقَتِهِ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ وَلِذَا يُقَدَّمُ وَصِيُّ الْأَبِ عَلَيْهِ فَيُقْتَصَرُ عَلَى مَوْرِدِ النَّصِّ. قُلْنَا: بَلْ هُوَ مُوَافِقٌ لِلْقِيَاسِ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ يُرَادُ لِمَقَاصِدِهِ وَلَا تَتَوَفَّرُ إلَّا بَيْنَ الْمُتَكَافِئِينَ عَادَةً، وَلَا يَتَّفِقُ الْكُفْءُ فِي كُلِّ زَمَانٍ، فَإِثْبَاتُ وِلَايَةِ الْأَبِ بِالنَّصِّ بِعِلَّةِ إحْرَازِ الْكُفْءِ إذَا ظَفِرَ بِهِ لِلْحَاجَةِ إلَيْهِ، إذْ قَدْ لَا يَظْفَرُ بِمِثْلِهِ إذَا فَاتَ بَعْدَ حُصُولِهِ فَيَتَعَدَّى إلَى الْجَدِّ. وَجْهُ قول الشَّافِعِيِّ أَنَّ التَّفْوِيضَ إلَى غَيْرِهِمَا مُخِلٌّ بِهَا لِقُصُورِ شَفَقَتِهِ لِبُعْدِ قَرَابَتِهِ وَدَلَالَةِ الْإِجْمَاعِ عَلَى اعْتِبَارِ مَا فِيهِ مِنْ الْقُصُورِ سَالِبًا لِلْوِلَايَةِ وَهُوَ الْإِجْمَاعُ عَلَى عَدَمِ وِلَايَتِهِ فِي الْمَالِ إلَّا بِوَصِيَّةٍ وَهُوَ أَدْنَى مِنْ النَّفْسِ فَسَلْبُهَا فِي النَّفْسِ أَوْلَى. وَلِمَا رُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: «لَا تُنْكَحُ الْيَتِيمَةُ حَتَّى تُسْتَأْمَرَ» وَالْيَتِيمَةُ الصَّغِيرَةُ الَّتِي لَا أَبَ لَهَا لِقولهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يُتْمَ بَعْدَ الْحُلُمِ» وَفِي الْحَدِيثِ «أَنَّ قُدَامَةَ بْنَ مَظْعُونٍ زَوَّجَ بِنْتَ أَخِيهِ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونَ مِنْ ابْنِ عُمَرَ، فَرَدَّهَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: إنَّهَا يَتِيمَةٌ، وَإِنَّهَا لَا تُنْكَحُ حَتَّى تُسْتَأْمَرَ» وَتَأْثِيرُ هَذَا الْوَصْفِ أَنَّ مُزَوِّجَهَا قَاصِرُ الشَّفَقَةِ حَتَّى لَمْ تَثْبُتْ لَهُ وِلَايَةٌ فِي الْمَالِ فَفِي النَّفْسِ أَوْلَى أَنْ لَا تَثْبُتَ.
وَلَنَا قوله تَعَالَى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَنْ لَا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنْ النِّسَاءِ} الْآيَةَ مَنَعَ مِنْ نِكَاحِهِنَّ عِنْدَ خَوْفِ عَدَمِ الْعَدْلِ فِيهِنَّ، وَهَذَا فَرْعُ جَوَازِ نِكَاحِهَا عِنْدَ عَدَمِ الْخَوْفِ. وَلَا يُقَالُ ذَلِكَ بِمَفْهُومِ الشَّرْطِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ جَوَازُ نِكَاحِ غَيْرِ الْمُحَرَّمَاتِ مُطْلَقًا، فَمُنِعَ مِنْ هَذِهِ عِنْدَ خَوْفِ عَدَمِ الْعَدْلِ فِيهِنَّ، فَعِنْدَ عَدَمِهِ يَثْبُتُ الْجَوَازُ بِالْأَصْلِ الْمُمَهَّدِ لَا مُضَافًا إلَى الشَّرْطِ، وَيُصَرِّحُ بِجَوَازِ نِكَاحِهَا قول عَائِشَةَ: إنَّهَا نَزَلَتْ فِي يَتِيمَةٍ تَكُونُ فِي حِجْرِ وَلِيِّهَا يَرْغَبُ فِي مَالِهَا وَلَا يُقْسِطُ فِي صَدَاقِهَا فَنَهَوْا عَنْ نِكَاحِهِنَّ حَتَّى يَبْلُغُوا بِهِنَّ سُنَّتَهُنَّ فِي الصَّدَاقِ، وَقَالَتْ فِي قوله تَعَالَى: {فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتَوْنَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ} الْآيَةَ، نَزَلَتْ فِي يَتِيمَةٍ تَكُونُ فِي حِجْرِ وَلِيِّهَا وَلَا يُرْغَبُ فِي نِكَاحِهَا لِدَمَامَتِهَا وَلَا يُزَوِّجُهَا مِنْ غَيْرِهِ كَيْ لَا يُشَارِكَهُ فِي مَالِهَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ، فَهَذِهِ الْآيَةُ أَمْرٌ بِتَزْوِيجِهِنَّ مِنْ غَيْرِهِمْ أَوْ تَزَوُّجِهِنَّ مَعَ الْإِقْسَاطِ. وَزَوَّجَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنْتَ عَمِّهِ حَمْزَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ وَهِيَ صَغِيرَةٌ، وَإِنَّمَا زَوَّجَهَا بِالْعُصُوبَةِ لَا بِوِلَايَةٍ ثَبَتَتْ بِالنُّبُوَّةِ؛ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُزَوِّجْ بِهَا قَطُّ، وَلَوْ فَعَلَ لَمْ يَتَزَوَّجْ أَحَدٌ إلَّا عَنْهُ، لَكِنْ كَانُوا يَتَزَوَّجُونَ مِنْ غَيْرِ عِلْمِهِ وَحُضُورِهِ عَلَى مَا فِي حَدِيثِ جَابِرٍ «أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَهُ عَنْ تَزَوُّجِهِ فَذَكَرَ أَنَّهَا ثَيِّبٌ، فَقَالَ: هَلَّا بِكْرًا» الْحَدِيثَ. «وَرَأَى عَلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ الصُّفْرَةَ فَقَالَ مَهْيَمْ؟ قَالَ تَزَوَّجْتُ، وَسَأَلَهُ كَمْ سَاقَ لَهَا». وَالْآثَارُ فِي ذَلِكَ وَجَوَازِهِ شَهِيرَةٌ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عُمَرَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ. وَالْمَعْنَى أَنَّ الْحَاجَةَ إلَى الْكُفْءِ ثَابِتَةٌ؛ لِأَنَّ مَقَاصِدَ النِّكَاحِ إنَّمَا تَتِمُّ مَعَهُ، وَإِنَّمَا يَظْفَرُ بِهِ فِي وَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ، وَالْوِلَايَةُ لِعِلَّةِ الْحَاجَةِ فَيَجِبُ إثْبَاتُهَا إحْرَازًا لِهَذِهِ الْمَصْلَحَةِ مَعَ أَنَّ أَصْلَ الْقَرَابَةِ دَاعِيَةٌ إلَى الشَّفَقَةِ، غَيْرَ أَنَّ فِي هَذِهِ الْقَرَابَةِ قُصُورًا أَظْهَرْنَاهُ فِي إثْبَاتِ الْخِيَارِ لَهَا إذَا بَلَغَتْ، وَإِذَا قَامَ دَلِيلُ الْجَوَازِ وَجَبَ كَوْنُ الْمُرَادِ بِالْيَتِيمَةِ فِي الْحَدِيثِ الْيَتِيمَةَ الْبَالِغَةَ مَجَازًا بِاعْتِبَارِ مَا كَانَ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَيَّا الْمَنْعَ بِالِاسْتِئْمَارِ «وَإِنَّمَا تُسْتَأْمَرُ الْبَالِغَةُ» وَحَدِيثُ قُدَامَةَ تَأْوِيلُهُ أَنَّهُ خَيَّرَهَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاخْتَارَتْ الْفَسْخَ، أَلَا تَرَى إلَى مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: وَاَللَّهِ لَقَدْ اُنْتُزِعَتْ مِنِّي بَعْدَ أَنْ مَلَكْتهَا. وَأَمَّا الْمَالُ فَإِنَّهُ يُعَارِضُ ذَلِكَ الْقَدْرَ مِنْ الشَّفَقَةِ كَوْنُهُ مَحْبُوبَ الطَّبْعِ حُبًّا يُفْضِي إلَى الْقَطِيعَةِ عِنْدَ الْمُعَارَضَةِ فِي قَرَابَةِ الْعَصَبَاتِ بِالْخِيَانَةِ فِيهِ لِنَفْسِهِ أَوْ لِغَيْرِهِ بِالْمُحَابَاةِ وَيَخْفَى لِتَعَذُّرِ إحْضَارِهِ بِتَدَاوُلِ الْأَيْدِي عَلَيْهِ أَوْ لِحُمُولَتِهِ أَوْ نِسْيَانِهِ أَوْ الْتَوَى فِي الْعِوَضِ فِي الْمُقَايَضَةِ فَلَا تُفِيدُ الْوِلَايَةُ غَيْرُ الْمُلْزِمَةِ فَائِدَةَ عَدَمِ اللُّزُومِ وَهُوَ التَّدَارُكُ فَانْتَفَتْ وَالْمُلْزِمَةُ مُنْتَفِيَةٌ لِقُصُورِ الشَّفَقَةِ فَتَعَذَّرَ إثْبَاتُ الْوِلَايَةِ. وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْقَرَابَةَ مَعَ قُصُورِ الشَّفَقَةِ مُقْتَضَاهَا وِلَايَةٌ غَيْرُ مُلْزِمَةٍ وَقَدْ تَعَذَّرَ مُقْتَضَاهَا فِي الْمَالِ فَانْتَفَتْ فِيهِ وَأَمْكَنَ فِي النَّفْسِ فَثَبَتَتْ فِيهَا، وَهَذَا لِمَا أَثْبَتْنَا فِيهِ مِنْ الْخِيَارِ عِنْدَ الْبُلُوغِ وَالرَّدِّ مِنْ الْقَاضِي عِنْدَ الِاطِّلَاعِ عَلَى عَدَمِ النَّظَرِ مِنْ تَنْقِيصِ مَهْرٍ أَوْ عَدَمِ كَفَاءَةٍ. وَجْهُ قولهِ فِي الثَّيِّبِ الصَّغِيرَةِ أَنَّهَا لِلْحَاجَةِ وَلَا حَاجَةَ لِحُدُوثِ الرَّأْيِ فِي أَمْرِ النِّكَاحِ لِمُمَارَسَتِهِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قولهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الثَّيِّبُ تُشَاوَرُ» أَفَادَ مَنْعَ النِّكَاحِ قَبْلَ الْمُشَاوَرَةِ وَلَا مُشَاوَرَةَ حَالَةَ الصِّغَرِ فَلَا نِكَاحَ حَالَةَ الصِّغَرِ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ. وَلَنَا مَا ذَكَرْنَا مِنْ تَحَقُّقِ الْحَاجَةِ إلَى إحْرَازِ الْكُفْءِ، وَالْوِلَايَةُ عَلَيْهَا فِي النِّكَاحِ مَعَ عَدَمِ الشَّهْوَةِ لَيْسَ إلَّا لِتَحْصِيلِهِ، وَلَا رَأْيَ حَالَةَ الصِّغَرِ بِاعْتِرَافِهِ حَيْثُ مَنَعَ الْمُشَاوَرَةَ قَبْلَ الْبُلُوغِ لِعَدَمِ أَهْلِيَّةِ الْمُشَاوَرَةِ حَتَّى أَخَّرَ جَوَازَ نِكَاحِهَا إلَى الْبُلُوغِ، فَكَانَ حَاصِلُ هَذَا الْكَلَام تَنَاقُضًا، فَإِنَّ سَلْبَ الْوِلَايَةِ بِعِلَّةِ حُدُوثِ الرَّأْيِ تَصْرِيحٌ بِحُدُوثِ الرَّأْيِ، وَتَأْخِيرُ نِكَاحِهَا لِعَدَمِ أَهْلِيَّةِ الْمُشَاوَرَةِ يُنَاقِضُهُ، فَلَزِمَ كَوْنُ الْمُرَادِ بِالثَّيِّبِ فِي الْحَدِيثِ الْبَالِغَةَ حَيْثُ عَلَّقَ بِالثُّيُوبَةِ مَا لَا يُعْتَبَرُ إلَّا بَعْدَ الْبُلُوغِ، فَإِذَا لَمْ يَحْدُثْ الرَّأْيُ قَبْلَ الْبُلُوغِ وَالْحَاجَةُ مُتَحَقِّقَةٌ قَبْلَهُ ثَبَتَتْ الْوِلَايَةُ لِتَحَقُّقِ الْحَاجَةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فَمَدَارُ الْوِلَايَةِ الصِّغَرُ. قَالَ الْمُصَنِّفُ (ثُمَّ الَّذِي يُؤَيِّدُ كَلَامَنَا فِيمَا تَقَدَّمَ) يَعْنِي مِنْ جَوَازِ نِكَاحِ الصَّغِيرِ وَالصَّغِيرَةِ إذَا زَوَّجَهُمَا الْوَلِيُّ الْعَصَبَةُ مُطْلَقًا بَعْدَ مَا كُفِينَا مَئُونَةَ إثْبَاتِهِ بِمَا تَقَدَّمَ.
قولهُ: (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «النِّكَاحُ إلَى الْعَصَبَاتِ» مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ) بَيْنَ الْأَبِ وَالْجَدِّ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الْعَصَبَاتِ فِي صُورَةِ الصِّغَرِ أَوَّلًا. رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ مَوْقُوفًا وَمَرْفُوعًا وَذَكَرَهُ سَبْطُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ بِلَفْظِ الْإِنْكَاحِ وَتَقَدَّمَ تَزْوِيجُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمَامَةَ بِنْتَ عَمِّهِ حَمْزَةَ وَهِيَ صَغِيرَةٌ وَقَالَ لَهَا الْخِيَارُ إذَا بَلَغَتْ. هَذَا (وَالتَّرْتِيبُ فِي وِلَايَةِ النِّكَاحِ كَالتَّرْتِيبِ فِي الْإِرْثِ وَالْأَبْعَدُ مَحْجُوبٌ بِالْأَقْرَبِ) فَتُقَدَّمُ عَصَبَةُ النَّسَبِ. وَأَوْلَاهُمْ الِابْنُ وَابْنُهُ وَإِنْ سَفَلَ، وَلَا يَتَأَتَّى إلَّا فِي الْمَعْتُوهَةِ وَهَذَا قولهُمَا خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ فَإِنَّهُ يَرَى أَنَّ الْأَبَ مُقَدَّمٌ عَلَى الِابْنِ وَسَتَأْتِي الْمَسْأَلَةُ، وَهَلْ يَثْبُتُ الْخِيَارُ لِلْأُمِّ الْمَعْتُوهَةِ إذَا أَفَاقَتْ وَقَدْ زَوَّجَهَا الِابْنُ؟ فِي الْخُلَاصَةِ: وَلَوْ زَوَّجَهَا الِابْنُ فَهُوَ كَالْأَبِ بَلْ أَوْلَى، ثُمَّ الْأَبُ ثُمَّ الْجَدُّ أَبُوهُ ثُمَّ الْأَخُ الشَّقِيقُ ثُمَّ لِأَبٍ. وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّ الْأَخَ وَالْجَدَّ يَشْتَرِكَانِ فِي الْوِلَايَةِ عِنْدَهُمَا، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يُقَدَّمُ الْجَدُّ كَمَا هُوَ الْخِلَافُ فِي الْمِيرَاثِ. وَالْأَصَحُّ أَنَّ الْجَدَّ أَوْلَى بِالتَّزْوِيجِ اتِّفَاقًا، ثُمَّ ابْنُ الْأَخِ الشَّقِيقِ ثُمَّ ابْنُ الْأَخِ لِأَبٍ ثُمَّ الْعَمُّ الشَّقِيقُ ثُمَّ لِأَبٍ ثُمَّ ابْنُ الْعَمِّ الشَّقِيقِ ثُمَّ ابْنُ الْعَمِّ لِأَبٍ ثُمَّ أَعْمَامُ الْأَبِ، كَذَلِكَ الشَّقِيقُ ثُمَّ أَبْنَاؤُهُ ثُمَّ لِأَبٍ ثُمَّ أَبْنَاؤُهُ ثُمَّ عَمُّ الْجَدِّ الشَّقِيقِ ثُمَّ أَبْنَاؤُهُ ثُمَّ عَمُّ الْجَدِّ لِأَبٍ ثُمَّ أَبْنَاؤُهُ وَإِنْ سَفَلُوا، كُلُّ هَؤُلَاءِ يَثْبُتُ لَهُمْ وِلَايَةُ الْإِجْبَارِ عَلَى الْبِنْتِ وَالذَّكَرِ فِي حَالِ صِغَرِهِمَا وَحَالِ كِبَرِهِمَا إذَا جُنَّا. مَثَلًا غُلَامٌ بَلَغَ عَاقِلًا ثُمَّ جُنَّ فَزَوَّجَهُ أَبُوهُ وَهُوَ رَجُلٌ جَازَ إذَا كَانَ جُنُونُهُ مُطْبِقًا، وَلَمْ يُقَدِّرْ أَبُو حَنِيفَةَ فِي الْجُنُونِ الْمُطْبِقِ قَدْرًا عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ، فَإِنْ أَفَاقَ فَلَا خِيَارَ لَهُ، وَإِذَا زَوَّجَهُ أَخُوهُ فَأَفَاقَ فَلَهُ الْخِيَارُ. ثُمَّ الْمُعْتَقُ وَإِنْ كَانَ امْرَأَةً ثُمَّ بَنُوهُ وَإِنْ سَفَلُوا ثُمَّ عَصَبَتُهُ مِنْ النَّسَبِ عَلَى تَرْتِيبِ عَصَبَاتِ النَّسَبِ، وَإِذَا عُدِمَ الْعَصَبَاتُ هَلْ يَثْبُتُ لِذَوِي الْأَرْحَامِ؟ يَأْتِي.

متن الهداية:
قَالَ: (فَإِنْ زَوَّجَهُمَا الْأَبُ وَالْجَدُّ) يَعْنِي الصَّغِيرَ وَالصَّغِيرَةَ (فَلَا خِيَارَ لَهُمَا بَعْدَ بُلُوغِهِمَا) لِأَنَّهُمَا كَامِلَا الرَّأْي وَافِرَا الشَّفَقَةِ فَيَلْزَمُ الْعَقْدُ بِمُبَاشَرَتِهَا كَمَا إذَا بَاشَرَاهُ بِرِضَاهُمَا بَعْدَ الْبُلُوغِ.
(وَإِنْ زَوَّجَهُمَا غَيْرُ الْأَبِ وَالْجَدِّ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْخِيَارُ إذَا بَلَغَ، إنْ شَاءَ أَقَامَ عَلَى النِّكَاحِ، وَإِنْ شَاءَ فَسَخَ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَا خِيَارَ لَهُمَا اعْتِبَارًا بِالْأَبِ وَالْجَدِّ. وَلَهُمَا أَنَّ قَرَابَةَ الْأَخِ نَاقِصَةٌ وَالنُّقْصَانُ يُشْعِرُ بِقُصُورِ الشَّفَقَةِ فَيَتَطَرَّقُ الْخَلَلُ إلَى الْمَقَاصِدِ عَسَى وَالتَّدَارُكُ مُمْكِنٌ بِخِيَارِ الْإِدْرَاكِ، وَإِطْلَاقُ الْجَوَابِ فِي غَيْرِ الْأَبِ وَالْجَدِّ يَتَنَاوَلُ الْأُمَّ، وَالْقَاضِي هُوَ الصَّحِيحُ مِنْ الرِّوَايَةِ لِقُصُورِ الرَّأْيِ فِي أَحَدِهِمَا وَنُقْصَانِ الشَّفَقَةِ فِي الْآخَرِ فَيَتَخَيَّرُ. قَالَ: (وَيُشْتَرَطُ فِيهِ الْقَضَاءُ) بِخِلَافِ خِيَارِ الْعِتْقِ لِأَنَّ الْفَسْخَ هَاهُنَا لِدَفْعِ ضَرَرٍ خَفِيٍّ وَهُوَ تَمَكُّنُ الْخَلَلِ وَلِهَذَا يَشْمَلُ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى فَجُعِلَ إلْزَامًا فِي حَقِّ الْآخَرِ فَيُفْتَقَرُ إلَى الْقَضَاءِ. وَخِيَارُ الْعِتْقِ لِدَفْعِ ضَرَرٍ جَلِيٍّ وَهُوَ زِيَادَةُ الْمِلْكِ عَلَيْهَا (وَلِهَذَا يَخْتَصُّ بِالْأُنْثَى فَاعْتُبِرَ دَفْعًا وَالدَّفْعُ لَا يَفْتَقِرُ إلَى الْقَضَاءِ) ثُمَّ عِنْدَهُمَا إذَا بَلَغَتْ الصَّغِيرَةُ وَقَدْ عَلِمَتْ بِالنِّكَاحِ فَسَكَتَتْ فَهُوَ رِضًا، (وَإِنْ لَمْ تَعْلَمْ بِالنِّكَاحِ فَلَهَا الْخِيَارُ حَتَّى تَعْلَمَ فَتَسْكُتَ) شَرَطَ الْعِلْمَ بِأَصْلِ النِّكَاحِ لِأَنَّهَا لَا تَتَمَكَّنُ مِنْ التَّصَرُّفِ إلَّا بِهِ، وَالْوَلِيُّ يَنْفَرِدُ بِهِ فَعُذِرَتْ بِالْجَهْلِ، وَلَمْ يُشْتَرَطْ الْعِلْمُ بِالْخِيَارِ لِأَنَّهَا تَتَفَرَّغُ لِمَعْرِفَةِ أَحْكَامِ الشَّرْعِ وَالدَّارُ دَارُ الْعِلْمِ فَلَمْ تُعْذَرْ بِالْجَهْلِ، بِخِلَافِ الْمُعْتَقَةِ لِأَنَّ الْأَمَةَ لَا تَتَفَرَّغُ لِمَعْرِفَتِهَا فَتُعْذَرُ بِالْجَهْلِ بِثُبُوتِ الْخِيَارِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ) يَعْنِي آخِرًا، وَقولهُ الْأَوَّلُ كَقولهِمَا، ثُمَّ رَجَعَ إلَى أَنْ لَا خِيَارَ وَهُوَ قول عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ اعْتِبَارًا بِالْأَبِ وَالْجَدِّ، وَهَذَا لِأَنَّ الْوِلَايَةَ لَمْ تُشْرَعْ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ النَّظَرِ، وَإِذَا حَكَمَ بِالنَّظَرِ قَامَ عَقْدُ الْوَلِيِّ مَقَامَ عَقْدِ نَفْسِهِ بَعْدَ الْبُلُوغِ، وَقولهُمَا قول ابْنِ عُمَرَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ؛ لِأَنَّ قَرَابَةَ الْأَخِ نَاقِصَةٌ فَتُشْعِرُ بِقُصُورِ الشَّفَقَةِ فَيَتَطَرَّقُ الْخَلَلُ فِي الْمَقَاصِدِ، وَقَدْ أَظْهَرَ الشَّرْعُ أَثَرَ هَذَا النُّقْصَانِ حَيْثُ مَنَعَ وِلَايَتَهُ فِي الْمَالِ فَيَجِبُ إظْهَارُهُ فِي النَّفْسِ إذَا عَلِمَ أَنَّهُ نَاظِرٌ إلَى إظْهَارِ أَثَرِهِ فَيَجِبُ التَّدَارُكُ بِإِثْبَاتِ خِيَارِ الْإِدْرَاكِ وَلِمَا قَدَّمْنَا مِنْ تَزْوِيجِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنْتَ عَمِّهِ حَمْزَةَ وَهِيَ صَغِيرَةٌ وَقَال: «لَهَا الْخِيَارُ».
قولهُ: (هُوَ الصَّحِيحُ) احْتِرَازٌ عَنْ رِوَايَةِ خَالِدِ بْنِ صَبِيحٍ الْمَرْوَزِيِّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ الْخِيَارُ إذَا كَانَ الْمُزَوِّجُ الْقَاضِيَ لِلْيَتِيمَةِ؛ لِأَنَّ وِلَايَتَهُ أَتَمُّ مِنْ وِلَايَةِ الْعَمِّ؛ لِأَنَّهَا فِي النَّفْسِ وَالْمَالِ جَمِيعًا، وَعَمَّا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا خِيَارَ فِيمَا إذَا زَوَّجَتْ الْأُمُّ؛ لِأَنَّ شَفَقَتَهَا فَوْقَ شَفَقَةِ الْأَبِ. وَوَجْهُ الظَّاهِرِ ظَاهِرٌ مِنْ الْكِتَابِ لَفًّا وَنَشْرًا مُرَتَّبًا.
قولهُ: (وَيُشْتَرَطُ فِيهِ) أَيْ فِي الْفَسْخِ. وَيُشْتَرَطُ الْقَضَاءُ فِي الْفُرْقَةِ فِي مَوَاضِعَ: هَذِهِ وَالْفُرْقَةُ بِعَدَمِ الْكَفَاءَةِ وَنُقْصَانُ الْمَهْرِ وَكُلُّهَا فَسْخٌ، وَالْفُرْقَةُ بِالْجَبِّ وَالْعُنَّةِ وَاللِّعَانِ وَكُلُّهَا طَلَاقٌ، وَبِإِبَاءِ زَوْجِ الذِّمِّيَّةِ الَّتِي أَسْلَمَتْ وَهِيَ طَلَاقٌ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ. وَقَدْ جَمَعَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ فِرَاقَ الطَّلَاقِ وَالْفَسْخِ وَمَا يَحْتَاجُ مِنْهَا إلَى الْقَضَاءِ فِي قولهِ:
فِي خِيَارِ الْبُلُوغِ وَالْإِعْتَاقِ ** فُرْقَةٌ حُكْمُهَا بِغَيْرِ طَلَاقٍ

فَقْدُ كُفْءٍ كَذَا وَنُقْصَانُ مَهْرٍ ** وَنِكَاحٌ فَسَادُهُ بِاتِّفَاقِ

مِلْكُ إحْدَى الزَّوْجَيْنِ أَوْ بَعْضِ زَوْجٍ ** وَارْتِدَادٍ كَذَا عَلَى الْإِطْلَاقِ

ثُمَّ جَبٌّ وَعُنَّةٌ وَلِعَانٌ ** وَإِبَا الزَّوْجِ فُرْقَةٌ بِطَلَاقِ

وَقَضَاءٌ لِلْقَاضِي فِي الْكُلِّ شَرْطٌ ** غَيْرَ مِلْكٍ وَرِدَّةٍ وَعَتَاقِ

وَقولهُ بِاتِّفَاقِ احْتِرَازٌ عَنْ الْحَامِلِ مِنْ زِنًا فَإِنَّ نِكَاحَهَا جَائِزٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، فَاسِدٌ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، فَالْفُرْقَةُ مِنْهُ طَلَاقٌ عِنْدَ هُمَا وَفَسْخٌ عِنْدَهُ. وَقولهُ عَلَى الْإِطْلَاقِ احْتِرَازٌ عَنْ قول مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فَإِنَّهُ يُفَرِّقُ بَيْنَ الرِّدَّةِ مِنْ الزَّوْجِ فَهِيَ فُرْقَةٌ بِطَلَاقٍ وَبَيْنَ الْمَرْأَةِ فَهِيَ فَسْخٌ، وَكُلُّ فُرْقَةٍ بِطَلَاقٍ إذَا أَوْقَعَ عَلَيْهَا فِي الْعِدَّةِ طَلْقَةً وَقَعَتْ إلَّا فِي اللِّعَانِ؛ لِأَنَّهُ يُوجِبُ حُرْمَةً مُؤَبَّدَةً، كُلُّ فُرْقَةٍ تُوجِبُ حُرْمَةً مُؤَبَّدَةً لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ بَعْدَهَا. وَوَجْهُ الِاحْتِيَاجِ إلَى الْقَضَاءِ بِقولهِ؛ لِأَنَّ الْفَسْخَ لِدَفْعِ ضَرَرٍ خَفِيٍّ. وَظَاهِرُ الْعِبَارَةِ تَحَقُّقُ الضَّرَرِ وَخَفَاؤُهُ وَلَيْسَ بِثَابِتٍ فَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ لِدَفْعِ ضَرَرٍ غَيْرِ مُحَقَّقٍ بَلْ نُظِرَ إلَى سَبَبِهِ وَهُوَ قُصُورُ الْقَرَابَةِ الْمُشْعِرِ بِقُصُورِ الشَّفَقَةِ، وَقَدْ يَظْهَرُ خِلَافُهُ مِمَّا هُوَ أَثَرُ النَّظَرِ مِنْ كَوْنِ الزَّوْجِ كُفْئًا وَالْمَهْرُ تَامًّا وَالْخِيَارُ ثَابِتٌ لَهَا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ كَغَيْرِهَا، فَقَدْ يُنْكِرُ الزَّوْجُ عَدَمَ النَّظَرِ فَيَرَى أَنَّ فَسْخَهَا لَا يُصَادِفُ مَحَلًّا فَاحْتِيجَ إلَى الْقَضَاءِ لِإِلْزَامِهِ بِنَاءً عَلَى تَعْلِيقِ حُكْمِ الْخِيَارِ بِمَظِنَّةِ تَرْكِ النَّظَرِ لَا بِحَقِيقَتِهِ، وَلَا بِدْعَ فِي خُلُوِّ الْمَظِنَّةِ الْمُعَلَّلِ بِهَا عَنْ الْحِكْمَةِ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ كَمَا فِي سَفَرِ الْمَلِكِ الْمُرَفَّهِ فِي عَمَلِهِ بِبِلَادٍ مُتَقَارِبَةٍ كُلَّ يَوْمٍ نِصْفَ فَرْسَخٍ عَلَى الْمَرَاكِبِ الْهَيِّنَةِ تَنَزُّهًا يَجُوزُ لَهُ الْقَصْرُ، وَلِأَنَّ فِي سَبَبِهِ ضَعْفًا وَخِلَافًا بَيْنَ الْعُلَمَاءِ، بِخِلَافِ خِيَارِ الْعِتْقِ فَإِنَّهُ لِدَفْعِ ضَرَرٍ جَلِيٍّ وَهُوَ زِيَادَةُ الْمِلْكِ عَلَيْهَا بِاسْتِدَامَةِ النِّكَاحِ وَلِهَذَا يَخْتَصُّ بِالْأُنْثَى لِاقْتِصَارِ السَّبَبِ وَهُوَ زِيَادَةُ الْمِلْكِ عَلَيْهَا، بِخِلَافِ الْعَبْدِ إذَا أُعْتِقَ فَاعْتُبِرَ خِيَارُهَا دَفْعًا لِضَرَرِ زِيَادَةِ مَمْلُوكِيَّتِهَا وَلَا خِلَافَ فِيهِ فَلَمْ يَحْتَجْ إلَى الْقَضَاءِ. وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ دَفْعَهَا هَذِهِ الزِّيَادَةُ التَّابِعَةُ لِأَصْلِ النِّكَاحِ بِرَفْعِهِ، وَفِيهِ جُعِلَ التَّابِعُ مَتْبُوعًا وَهُوَ نَقْضُ الْأُصُولِ؛ لِأَنَّهُ عَكْسُ الْمَعْقول. لَا يُقَالُ: الشَّيْءُ إذَا كَانَ تَابِعًا لِشَيْءٍ بِاعْتِبَارِ الْوُجُودِ يَكُونُ مَتْبُوعًا فِي النَّفْيِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ كُلَّ لَازِمٍ نَفْيُهُ مُسْتَلْزِمٌ لِنَفْيِ الْمَلْزُومِ مَعَ أَنَّ وُجُودَهُ لَازَمَ وُجُودَهُ، فَاسْتِتْبَاعُ الزِّيَادَةِ أَصْلَ النِّكَاحِ فِي النَّفْيِ لَا يَكُونُ عَكْسَ الْمَعْقول بَلْ وَفْقَهُ؛ لِأَنَّا نَقول: الْمُرَادُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُنْفَى التَّابِعُ إذَا كَانَ مُسْتَلْزِمًا لِنَفْيِ الْمَتْبُوعِ اللَّازِمِ الثَّابِتِ لِتَضَمُّنِهِ رَفْعَ الْأَقْوَى لِغَرَضِ رَفْعِ الْأَدْنَى. وَالْجَوَابُ أَنَّهُ إذَا كَانَ مُقْتَضَى الدَّلِيلِ وَجَبَ وَيَكُونُ حِينَئِذٍ رَفْعُ الْمَتْبُوعِ مُقْتَضَى الدَّلِيلِ بِوَاسِطَةِ اقْتِضَائِهِ مَلْزُومَهُ وَهُوَ ثَابِتٌ هُنَا وَهُوَ النَّصُّ، فَالْوَجْهُ فِي السُّؤَالِ طَلَبُ حِكْمَتِهِ مَعَ أَنَّهُ يَتَضَمَّنُ ضَرَرَ الزَّوْجِ فَلِمَ رُجِّحَ دَفْعُ ضَرَرِهَا عَلَى دَفْعِ ضَرَرِهِ؟ وَالْجَوَابُ أَنَّ دَفْعَ ضَرَرِهَا يُبْطِلُ حَقًّا مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا وَهُوَ بِاسْتِيفَاءِ حَقٍّ مُشْتَرَكٍ لَهُ وَلَهَا يُثْبِتُ لِنَفْسِهِ حَقًّا عَلَيْهَا فَدَفْعُهَا أَوْلَى وَلِأَنَّهُ رَضِيَ بِهَذَا الضَّرَرِ حَيْثُ تَزَوَّجَهَا مَعَ الْعِلْمِ بِثُبُوتِ خِيَارِ الْعِتْقِ شَرْعًا.
قولهُ: (فَتُعْذَرُ) أَيْ الْأَمَةُ الْمُعْتَقَةُ (بِالْجَهْلِ بِثُبُوتِ الْخِيَارِ) لَهَا إذْ كَانَتْ مَشْغُولَةً بِالْخِدْمَةِ الْوَاجِبَةِ الشَّاغِلَةِ لَهَا عَنْ التَّعَلُّمِ، بِخِلَافِ الْحُرَّةِ لَا تُعْذَرُ بِهِ لِانْتِفَاءِ هَذَا الْمَعْنَى فِي حَقِّهَا.

متن الهداية:
(ثُمَّ خِيَارُ الْبِكْرِ يَبْطُلُ بِالسُّكُوتِ، وَلَا يَبْطُلُ خِيَارُ الْغُلَامِ مَا لَمْ يَقُلْ رَضِيت أَوْ يَجِيءُ مِنْهُ مَا يُعْلَمُ أَنَّهُ رِضًا، وَكَذَلِكَ الْجَارِيَةُ إذَا دَخَلَ بِهَا الزَّوْجُ قَبْلَ الْبُلُوغِ) اعْتِبَارًا لِهَذِهِ الْحَالَةِ بِحَالَةِ ابْتِدَاءِ النِّكَاحِ، وَخِيَارُ الْبُلُوغِ فِي حَقِّ الْبِكْرِ لَا يَمْتَدُّ إلَى آخِرِ الْمَجْلِسِ وَلَا يَبْطُلُ بِالْقِيَامِ فِي حَقِّ الثَّيِّبِ وَالْغُلَامِ لِأَنَّهُ مَا ثَبَتَ بِإِثْبَاتِ الزَّوْجِ بَلْ لِتَوَهُّمِ الْخَلَلِ فَإِنَّمَا يَبْطُلُ بِالرِّضَا غَيْرَ أَنَّ سُكُوتَ الْبِكْرِ رِضًا، بِخِلَافِ خِيَارِ الْعِتْقِ لِأَنَّهُ ثَبَتَ بِإِثْبَاتِ الْمَوْلَى وَهُوَ الْإِعْتَاقُ فَيُعْتَبَرُ فِيهِ الْمَجْلِسُ كَمَا فِي خِيَارِ الْمُخَيَّرَةِ، ثُمَّ الْفُرْقَةُ بِخِيَارِ الْبُلُوغِ لَيْسَتْ بِطَلَاقٍ لِأَنَّهُ يَصِحُّ مِنْ الْأُنْثَى وَلَا طَلَاقَ إلَيْهَا، وَكَذَا بِخِيَارِ الْعِتْقِ لِمَا بَيَّنَّا، بِخِلَافِ الْمُخَيَّرَةِ لِأَنَّ الزَّوْجَ هُوَ الَّذِي مَلَكَهَا وَهُوَ مَالِكٌ لِلطَّلَاقِ (فَإِنْ مَاتَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الْبُلُوغِ وَرِثَهُ الْآخَرُ) وَكَذَا إذَا مَاتَ بَعْدَ الْبُلُوغِ قَبْلَ التَّفْرِيقِ لِأَنَّ أَصْلَ الْعَقْدِ صَحِيحٌ وَالْمِلْكُ ثَابِتٌ بِهِ وَقَدْ انْتَهَى بِالْمَوْتِ، بِخِلَافِ مُبَاشَرَةِ الْفُضُولِيِّ إذَا مَاتَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ قَبْلَ الْإِجَازَةِ لِأَنَّ النِّكَاحَ ثَمَّةَ مَوْقُوفٌ فَيَبْطُلُ بِالْمَوْتِ وَهَاهُنَا نَافِذٌ فَيَتَقَرَّرُ بِهِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (ثُمَّ خِيَارُ الْبِكْرِ يَبْطُلُ بِالسُّكُوتِ) إنَّمَا ذَكَرَهُ بَعْدَ مَا قَدَّمَ مِنْ قولهِ فَسَكَتَتْ فَهُوَ رِضًا لِبَيَانِ أَنَّ كَوْنَ سُكُوتِهَا رِضًا فِيمَا تَقَدَّمَ هُوَ إذَا كَانَتْ بِكْرًا فَإِنَّ الْعِبَارَةَ هُنَاكَ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ، وَلْيُمَهِّدْ الْفَرْقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْغُلَامِ وَالثَّيِّبِ حَيْثُ قَالَ: (وَلَا يَبْطُلُ خِيَارُ الْغُلَامِ مَا لَمْ يَقُلْ رَضِيتُ أَوْ يَجِيءُ مِنْهُ مَا يُعْلَمُ أَنَّهُ رِضًا) كَالْوَطْءِ وَدَفْعِ الْمَهْرِ وَالْكِسْوَةِ وَالنَّفَقَةِ، وَيُحْتَمَلُ كَوْنُ دَفْعِ الْمَهْرِ رِضًا إذَا لَمْ يَكُنْ دَخَلَ بِهَا، أَمَّا إنْ كَانَ دَخَلَ بِهَا قَبْلَ بُلُوغِهِ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَكُونَ دَفْعُ الْمَهْرَ بَعْدَ بُلُوغِهِ رِضًا؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْهُ، أَقَامَ أَوْ فَسَخَ (وَكَذَلِكَ الْجَارِيَةُ إذَا دَخَلَ بِهَا الزَّوْجُ قَبْلَ الْبُلُوغِ) يَعْنِي لَا يَبْطُلُ خِيَارُهَا بِالسُّكُوتِ بَعْدَ الْبُلُوغِ مَا لَمْ تَقُلْ رَضِيت، أَوْ يَجِيءُ مِنْهَا مَا يُعْلَمُ أَنَّهُ رِضًا كَالتَّمْكِينِ مِنْ الْوَطْءِ وَطَلَبِ الْمَهْرِ وَالْوَاجِبِ (اعْتِبَارًا لِهَذِهِ الْحَالَةِ) أَيْ حَالَةِ ثُبُوتِ الِاخْتِيَارِ (بِحَالَةِ ابْتِدَاءِ النِّكَاحِ) فَكَمَا لَا يَكُونُ سُكُوتُهَا رِضًا لَوْ زُوِّجَتْ ثَيِّبًا بَالِغَةً لَا يَكُونُ سُكُوتُهَا رِضًا حَالَةَ ثُبُوتِ الْخِيَارِ وَهِيَ ثَيِّبٌ بَالِغَةٌ، وَلَوْ زُوِّجَتْ بِكْرًا بَالِغَةً اُكْتُفِيَ بِسُكُوتِهَا فَكَذَا إذَا ثَبَتَ لَهَا الْخِيَارُ الْعِلْمُ بِالنِّكَاحِ وَهِيَ بِكْرٌ بَالِغَةٌ، وَلَمَّا كَانَ الْمَفْهُومُ مِنْ قولهِ خِيَارُ الْبِكْرِ يَبْطُلُ بِالسُّكُوتِ إنَّمَا يَقْتَضِي أَنَّ خِيَارَ الثَّيِّبِ لَا يَبْطُلُ بِهِ وَلَا تَعَرُّضَ فِيهِ لِمَا يَبْطُلُ بِهِ خِيَارُ الثَّيِّبِ صَرَّحَ بِمَفْهُومِهِ لِيُفِيدَ ذَلِكَ وَهُوَ قولهُ وَكَذَلِكَ الْجَارِيَةُ إلَخْ.
قولهُ: (وَخِيَارُ الْبُلُوغِ فِي حَقِّ الْبِكْرِ لَا يَمْتَدُّ إلَى آخِرِ الْمَجْلِسِ) بَلْ يَبْطُلُ بِمُجَرَّدِ سُكُوتِهَا وَالْمُرَادُ بِالْمَجْلِسِ مَجْلِسُ بُلُوغِهَا بِأَنْ حَاضَتْ فِي مَجْلِسٍ وَقَدْ كَانَ بَلَغَهَا النِّكَاحُ، أَوْ مَجْلِسِ بُلُوغِ خَبَرِ النِّكَاحِ إذَا كَانَتْ بِكْرًا بَالِغَةً، وَجَعَلَ الْخَصَّافُ خِيَارَ الْبِكْرِ مُمْتَدًّا إلَى آخِرِ الْمَجْلِسِ وَهُوَ قول بَعْضِ الْعُلَمَاءِ مَالَ هُوَ إلَيْهِ، وَهُوَ خِلَافُ رِوَايَةِ الْمَبْسُوطِ فَإِنَّ فِيهِ ثُبُوتَ الْخِيَارِ لَهَا فِي السَّاعَةِ الَّتِي تَكُونُ فِيهَا بَالِغَةً إذَا كَانَتْ عَالِمَةً بِالنِّكَاحِ، وَعَلَى هَذَا قَالُوا يَنْبَغِي أَنْ تَطْلُبَ مَعَ رُؤْيَةِ الدَّمِ فَإِنْ رَأَتْهُ لَيْلًا تَطْلُبُ بِلِسَانِهَا فَتَقول فَسَخْت نِكَاحِي وَتُشْهِدُ إذَا أَصْبَحَتْ وَتَقول رَأَيْت الدَّمَ الْآنَ. وَقِيلَ لِمُحَمَّدٍ كَيْفَ وَهُوَ كَذِبٌ، وَإِنَّمَا أَدْرَكَتْ قَبْلَ هَذَا؟ فَقَالَ لَا تُصَدَّقُ فِي الْإِسْنَادِ فَجَازَ لَهَا أَنْ تَكْذِبَ كَيْ لَا يَبْطُلَ حَقُّهَا، ثُمَّ إذَا اخْتَارَتْ وَأَشْهَدَتْ وَلَمْ تَتَقَدَّمْ إلَى الْقَاضِي الشَّهْرَ وَالشَّهْرَيْنِ فَهِيَ عَلَى خِيَارِهَا كَخِيَارِ الْعَيْبِ. وَمَا ذُكِرَ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ مِنْ أَنَّهَا لَوْ بَعَثَتْ خَادِمَهَا حِينَ حَاضَتْ لِلشُّهُودِ فَلَمْ تَقْدِرْ عَلَيْهِمْ وَهِيَ فِي مَكَان مُنْقَطِعٍ لَزِمَهَا وَلَمْ تُعْذَرْ يَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ عَلَى مَا إذَا لَمْ تَفْسَخْ بِلِسَانِهَا حَتَّى فَعَلَتْ. وَمَا قِيلَ لَوْ سَأَلَتْ عَنْ اسْمِ الزَّوْجِ أَوْ عَنْ الْمَهْرِ أَوْ سَلَّمَتْ عَلَى الشُّهُودِ بَطَلَ خِيَارُهَا تَعَسُّفٌ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ. وَغَايَةُ الْأَمْرِ كَوْنُ هَذِهِ الْحَالَةِ كَحَالَةِ ابْتِدَاءِ النِّكَاحِ، وَلَوْ سَأَلَتْ الْبِكْرُ عَنْ اسْمِ الزَّوْجِ لَا يَنْفُذُ عَلَيْهَا، وَكَذَا عَنْ الْمَهْرِ وَإِنْ كَانَ عَدَمُ ذِكْرِهِ لَا يُبْطِلُ كَوْنَ سُكُوتِهَا رِضًا عَلَى الْخِلَافِ، فَإِنَّ ذَلِكَ إذَا لَمْ تَسْأَلْ عَنْهُ لِظُهُورِ أَنَّهَا رَاضِيَةٌ بِكُلِّ مَهْرٍ، وَالسُّؤَالُ يُفِيدُ نَفْيَ ظُهُورِهِ فِي ذَلِكَ وَأَنَّهَا يَتَوَقَّفُ رِضَاهَا عَلَى مَعْرِفَةِ كَمَيِّتِهِ، وَكَذَا السَّلَامُ عَلَى الْقَادِمِ لَا يَدُلُّ عَلَى الرِّضَا، كَيْفَ وَإِنَّمَا أَرْسَلَتْ لِغَرَضِ الْإِشْهَادِ عَلَى الْفَسْخِ. وَلَوْ اجْتَمَعَ خِيَارُ الْبُلُوغِ وَالشُّفْعَةِ تَقول أَطْلُبُ الْحَقَّيْنِ ثُمَّ تَبْدَأُ فِي التَّفْسِيرِ بِخِيَارِ الْبُلُوغِ، وَلَوْ زَوَّجَ أَمَتَهُ الصَّغِيرَةَ ثُمَّ أَعْتَقَهَا ثُمَّ بَلَغَتْ لَا يَثْبُتُ لَهَا خِيَارُ الْبُلُوغِ لِكَمَالِ وِلَايَةِ الْمَوْلَى كَالْأَبِ وَلِأَنَّ خِيَارَ الْعِتْقِ يُغْنِي عَنْهُ، وَالْعَبْدُ الصَّغِيرُ إذَا بَلَغَ كَذَلِكَ فِي الْأَصَحِّ إلَّا أَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ فِي حَقِّهِ خِيَارُ الْعِتْقِ فَيُطَلِّقُ إنْ شَاءَ.
قولهُ: (وَلَا يَبْطُلُ بِالْقِيَامِ فِي حَقِّ الثَّيِّبِ وَالْغُلَامِ) وَوَجْهُهُ ظَاهِرٌ مِنْ الْكِتَابِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّهَا إذَا بَلَغَتْ ثَيِّبًا فَوَقَفَ خِيَارُهَا الْعُمْرَ؛ لِأَنَّ سَبَبَهُ عَدَمُ الرِّضَا فَيَبْقَى إلَى أَنْ يُوجَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى الرِّضَا بِالنِّكَاحِ، وَكَذَا الْغُلَامُ، وَعَلَى هَذَا تَظَافَرَتْ كَلِمَاتُهُمْ. وَمَا فِي غَايَةِ الْبَيَانِ مِمَّا نُقِلَ عَنْ الطَّحَاوِيِّ حَيْثُ قَالَ خِيَارُ الْمُدْرِكَةِ يَبْطُلُ بِالسُّكُوتِ إذَا كَانَتْ بِكْرًا وَإِنْ كَانَتْ ثَيِّبًا لَمْ يَبْطُلْ بِهِ، وَكَذَا إذَا كَانَ الْخِيَارُ لِلزَّوْجِ لَا يَبْطُلُ إلَّا بِصَرِيحِ الْإِبْطَالِ أَوْ يَجِيءُ مِنْهُ دَلِيلٌ عَلَى إبْطَالِ الْخِيَارِ كَمَا إذَا اشْتَغَلَتْ بِشَيْءٍ آخَرَ أَوْ أَعْرَضَتْ عَنْ الِاخْتِيَارِ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ مُشْكِلٍ، إذْ يَقْتَضِي أَنَّ الِاشْتِغَالَ بِعَمَلٍ آخَرَ يُبْطِلُهُ وَهُوَ تَقْيِيدٌ بِالْمَجْلِسِ ضَرُورَةَ أَنْ تُبَدِّلَهُ حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا يَسْتَلْزِمُهُ ظَاهِرًا.
وَفِي الْجَوَامِعِ: وَإِنْ كَانَتْ ثَيِّبًا حِينَ بَلَغَهَا أَوْ كَانَ غُلَامًا لَمْ يَبْطُلْ بِالسُّكُوتِ وَإِنْ أَقَامَتْ مَعَهُ أَيَّامًا، إلَّا أَنْ تَرْضَى بِلِسَانِهَا أَوْ يُوجَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى الرِّضَا مِنْ الْوَطْءِ أَوْ التَّمْكِينِ مِنْهُ طَوْعًا أَوْ الْمُطَالَبَةِ بِالْمَهْرِ أَوْ النَّفَقَةِ وَفِيهَا لَوْ قَالَتْ كُنْت مُكْرَهَةً فِي التَّمْكِينِ صُدِّقَتْ وَلَا يَبْطُلُ خِيَارُهَا، وَفِي الْخُلَاصَةِ: لَوْ أَكَلَتْ مِنْ طَعَامِهِ أَوْ خِدْمَتِهِ فَهِيَ عَلَى خِيَارِهَا. لَا يُقَالُ: كَوْنُ الْقول لَهَا فِي دَعْوَى الْإِكْرَاهِ فِي التَّمْكِينِ مُشْكِلٌ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ يُصَدِّقُهَا.
قولهُ: (بِخِلَافِ خِيَارِ الْعِتْقِ) مُتَّصِلٌ بِقولهِ لَا يَمْتَدُّ إلَى آخِرِ الْمَجْلِسِ: أَيْ فَيَمْتَدُّ خِيَارُ الْعِتْقِ إلَى آخِرِ الْمَجْلِسِ. وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ خِيَارَ الْعِتْقِ ثَبَتَ بِإِثْبَاتِ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّهُ حُكْمُ الْعِتْقِ الثَّابِتِ بِإِثْبَاتِهِ فَاقْتَضَى جَوَابًا فِي الْمَجْلِسِ كَالتَّمْلِيكِ فِي الْمُخَيَّرَةِ. وَحَاصِلُ وُجُوهِ الْفَرْقِ بَيْنَ خِيَارَيْ الْبُلُوغِ وَالْعِتْقِ خَمْسَةُ أَوْجُهٍ: احْتِيَاجُهُ إلَى الْقَضَاءِ وَلَوْ فَسَخَ أَحَدُهُمَا وَلَمْ يَفْسَخْ الْقَاضِي حَتَّى مَاتَ وَرَثَةُ الْآخَرِ. وَكَذَا الْوَطْءُ بَعْدَ الْفَسْخِ قَبْلَ الْقَضَاءِ بِهِ، بِخِلَافِ خِيَارِ الْعِتْقِ يَنْفَسِخُ النِّكَاحُ بِمُجَرَّدِ فَسْخِهَا، وَلَا يَبْطُلُ خِيَارُ الْعِتْقِ بِالسُّكُوتِ إلَى آخِرِهِ، وَيَبْطُلُ خِيَارُ الْبُلُوغِ إذَا كَانَ مِنْ جِهَةِ الْمَرْأَةِ وَهِيَ بِكْرٌ، بِخِلَافِ الْغُلَامِ وَالثَّيِّبِ؛ لِأَنَّ السُّكُوتَ لَمْ يُجْعَلْ فِي حَقِّهِمَا رِضًا. وَيَثْبُتُ خِيَارُ الْبُلُوغِ لِكُلٍّ مِنْ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، بِخِلَافِ خِيَارِ الْعِتْقِ لَوْ زَوَّجَ عَبْدَهُ ثُمَّ أَعْتَقَهُ لَا خِيَارَ لَهُ؛ لِأَنَّ خِيَارَ الْعِتْقِ لِدَفْعِ ضَرَرِ زِيَادَةِ الْمِلْكِ وَهُوَ مُنْتَفٍ فِي الذَّكَرِ، وَخِيَارُ الْبُلُوغِ لِمَا يَنْشَأُ عَنْ قُصُورِ الشَّفَقَةِ وَهُوَ يَعُمُّهُمَا لَا يُقَالُ: الْغُلَامُ يَتَمَكَّنُ بَعْدَ الْبُلُوغِ مِنْ التَّخَلُّصِ بِالطَّرِيقِ الْمَشْرُوعِ لَلذُّكْرَانِ وَهُوَ الطَّلَاقُ فَلَا حَاجَةَ إلَى إثْبَاتِ الْخِيَارِ، وَمَا ثَبَتَ الْخِيَارُ إلَّا لِلْحَاجَةِ؛ لِأَنَّا نَقول: لَا يَتَخَلَّصُ عَنْ نِصْفِ الْمَهْرِ بِالطَّلَاقِ وَإِنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ بَلْ يَلْزَمُهُ. وَهُنَا إذَا قَضَى الْقَاضِي بِالْفُرْقَةِ قَبْلَ الدُّخُولِ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ، وَأَمَّا بَعْدَهُ فَيَلْزَمُهُ كُلُّهُ، لَكِنْ لَوْ تَزَوَّجَهَا بَعْدَ ذَلِكَ مَلَكَ عَلَيْهَا الثَّلَاثَ.
وَفِي الْجَوَامِعِ: إذَا بَلَغَ الْغُلَامُ فَقَالَ فَسَخْت يَنْوِي الطَّلَاقَ فَهِيَ طَالِقٌ بَائِنٌ، وَإِنْ نَوَى الثَّلَاثَ فَثَلَاثٌ وَهَذَا أَحْسَنُ؛ لِأَنَّ لَفْظَ الْفَسْخِ يَصْلُحُ كِنَايَةً عَنْ الطَّلَاقِ. وَالرَّابِعُ أَنَّ الْجَهْلَ بِثُبُوتِ الْخِيَارِ شَرْعًا مُعْتَبَرٌ فِي خِيَارِ الْعِتْقِ دُونَ الْبُلُوغِ. وَالْخَامِسُ أَنَّ خِيَارَ الْعِتْقِ يَبْطُلُ بِالْقِيَامِ عَنْ الْمَجْلِسِ، وَلَا يَبْطُلُ خِيَارُ الْبُلُوغِ فِي الثَّيِّبِ وَالْغُلَامِ وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ الْمَوْلَيَيْنِ عَلَى اخْتِيَارِ أَمَتِهِمَا الَّتِي زَوَّجَاهَا نَفْسَهَا إذَا أَعْتَقَاهَا، وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْعَاصِبِينَ الْمُزَوِّجِينَ بَعْدَ الْبُلُوغِ أَنَّهَا اخْتَارَتْ نَفْسَهَا؛ لِأَنَّ سَبَبَ الرَّدِّ قَدْ انْقَطَعَ فِي الْأُولَى بِالْعِتْقِ وَلَمْ يَنْقَطِعْ فِي الثَّانِيَةِ إذْ هُوَ النَّسَبُ وَهُوَ بَاقٍ قولهُ (ثُمَّ الْفُرْقَةُ بِخِيَارِ الْبُلُوغِ لَيْسَتْ بِطَلَاقٍ) بَلْ فَسْخٌ لَا يُنْقِصُ عَدَدَ الطَّلَاقِ فَلَوْ جَدَّدَا بَعْدَهُ مَلَكَ الثَّلَاثَ (وَكَذَا بِخِيَارِ الْعِتْقِ لِمَا بَيَّنَّا) مِنْ أَنَّهُ يَصِحُّ مِنْ الْأُنْثَى وَلَا طَلَاقَ إلَيْهَا، وَمِنْ أَنَّهُ يَثْبُتُ بِإِثْبَاتِ الْمَوْلَى وَلَا طَلَاقَ إلَيْهِ، وَكَذَا الْفُرْقَةُ بِعَدَمِ الْكَفَاءَةِ وَنُقْصَانِ الْمَهْرِ فَسْخٌ (بِخِلَافِ خِيَارِ الْمُخَيَّرَةِ) لِمَا ذَكَرَهُ فَيَقَعُ الطَّلَاقُ بِاخْتِيَارِهَا نَفْسَهَا؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا مَلَّكَهَا مَا يَمْلِكُهُ وَهُوَ الطَّلَاقُ وَلَوْ وَقَعَتْ هَذِهِ الْفُرْقَةُ قَبْلَ الدُّخُولِ لَا يَجِبُ نِصْفُ الْمُسَمَّى، بِخِلَافِ الطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ. وَهَلْ يَقَعُ الطَّلَاقُ فِي الْعِدَّةِ إذَا كَانَتْ هَذِهِ الْفُرْقَةُ بَعْدَ الدُّخُولِ: أَيْ الصَّرِيحُ أَوْ لَا؟ لِكُلِّ وَجْهٍ، وَالْأَوْجَهُ الْوُقُوعُ.

متن الهداية:
قَالَ: (وَلَا وِلَايَةَ لِعَبْدٍ وَلَا صَغِيرٍ وَلَا مَجْنُونٍ) لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ فَأَوْلَى أَنْ لَا تَثْبُتَ عَلَى غَيْرِهِمْ وَلِأَنَّ هَذِهِ وِلَايَةٌ نَظَرِيَّةٌ وَلَا نَظَرَ فِي التَّفْوِيضِ إلَى هَؤُلَاءِ (وَلَا) وِلَايَةَ (لِكَافِرٍ عَلَى مُسْلِمٍ) لِقولهِ تَعَالَى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} وَلِهَذَا لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ عَلَيْهِ وَلَا يَتَوَارَثَانِ، أَمَّا الْكَافِرُ فَتَثْبُتُ لَهُ وِلَايَةُ الْإِنْكَاحِ عَلَى وَلَدِهِ الْكَافِرِ لِقولهِ تَعَالَى: {وَاَلَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} وَلِهَذَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ عَلَيْهِ وَيُجْزِئُ بَيْنَهُمَا التَّوَارُثُ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَلَا وِلَايَةَ لِعَبْدٍ) لِأَنَّ الْوِلَايَةَ بِإِنْفَاذِ الْقول عَلَى الْغَيْرِ إذَا كَانَتْ مُتَعَدِّيَةً، وَالْقَاصِرَةُ مُنْتَفِيَةٌ فِي هَؤُلَاءِ فَالْمُتَعَدِّيَةُ أَوْلَى. فَإِنْ قِيلَ: صِحَّةُ إقْرَارِ الْعَبْدِ تَدُلُّ عَلَى وِلَايَتِهِ الْقَاصِرَةِ. فَالْجَوَابُ أَنَّهَا فِي الْمَعْنَى مُعَلَّقَةٌ فِي غَيْرِ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ. وَأَمَّا هُمَا فَمُسْتَثْنَيَانِ عِنْدَنَا. وَالْإِجْمَاعُ عَلَى نَفْيِ وِلَايَتِهِ فِي النِّكَاحِ لِعَجْزِهِ، وَإِلَّا فَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ رِوَايَتُهُ الْحَدِيثَ وِلَايَةٌ حَيْثُ كَانَ إلْزَامًا، وَكَذَا أَمَانُهُ إذَا كَانَ مَأْذُونًا لَهُ فِي الْقِتَالِ وَشَهَادَتُهُ بِهِلَالِ رَمَضَانَ. وَإِنْ أُجِيبَ عَنْ هَذِهِ فَالْمُشَاحَحَةُ مُمْكِنَةٌ فِي الْأَجْوِبَةِ. وَالْأَسْلَمُ جَعْلُ الْمُرَادِ بِقولهِ وَلَا وِلَايَةَ لِعَبْدٍ: أَيْ فِي النِّكَاحِ لَا نَفْيِ الْوِلَايَةِ مُطْلَقًا؛ لِأَنَّهُ يُسْتَدَلُّ بِعَدَمِ الْقَاصِرَةِ عَلَى عَدَمِ الْمُتَعَدِّيَةِ، فَلَوْ أُرِيدَ الْأَعَمُّ كَانَ مُسْتَدِلًّا بِبَعْضِ الدَّعْوَى وَلَا الْمُتَعَدِّيَةُ مُطْلَقًا، إذْ قَدْ يُشَاحِحُ بِأَنَّ لَهُ شَيْئًا مِنْ الْمُتَعَدِّيَةِ لِوِلَايَتِهِ عَلَى زَوْجَتِهِ الْحُرَّةِ فِي أُمُورِ الزَّوْجِيَّةِ كَالْمَنْعِ مِنْ الْخُرُوجِ وَالتَّمْكِينِ وَطَلَبِ الزِّينَةِ مَعَ مَا ذَكَرْنَا فَإِنَّهُ يَصْدُقُ فِي الْكُلِّ أَنَّهُ عَبْدٌ لَهُ وِلَايَةٌ عَلَى الْغَيْرِ مُلْزِمَةٌ. وَالْمُرَادُ بِالْجُنُونِ الْمُطْبِقِ وَهُوَ عَلَى مَا قِيلَ سَنَةٌ، وَقِيلَ أَكْثَرُ السَّنَةِ، وَقِيلَ شَهْرٌ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى.
وَفِي التَّجْنِيسِ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يُوَقِّتُ فِي الْجُنُونِ الْمُطْبِقِ شَيْئًا كَمَا هُوَ دَأْبُهُ فِي التَّقْدِيرَاتِ فَيُفَوَّضُ إلَى رَأْيِ الْقَاضِي، وَغَيْرُ الْمُطْبِقِ تَثْبُتُ لَهُ الْوِلَايَةُ فِي حَالَةِ إفَاقَتِهِ بِالْإِجْمَاعِ. وَقَدْ يُقَالُ: لَا حَاجَةَ إلَى تَقْيِيدِهِ بِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُزَوَّجُ حَالَ جُنُونِهِ مُطْبِقًا أَوْ غَيْرَ مُطْبِقٍ وَيُزَوَّجُ حَالَ إفَاقَتِهِ عَنْ جُنُونٍ مُطْبِقٍ أَوْ غَيْرِ مُطْبِقٍ، لَكِنَّ الْمَعْنَى أَنَّهُ إذَا كَانَ مُطْبِقًا تُسْلَبُ وِلَايَتُهُ فَتُزَوَّجُ وَلَا تَنْتَظِرُ إفَاقَتَهُ، وَغَيْرُ الْمُطْبِقِ الْوِلَايَةُ ثَابِتَةٌ لَهُ فَلَا تُزَوَّجُ وَتَنْتَظِرُ إفَاقَتَهُ كَالنَّائِمِ. وَمُقْتَضَى النَّظَرِ أَنَّ الْكُفْءَ الْخَاطِبَ إذَا فَاتَ بِانْتِظَارِ إفَاقَتِهِ تُزَوَّجُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُطْبِقًا وَإِلَّا اُنْتُظِرَ عَلَى مَا اخْتَارَهُ الْمُتَأَخِّرُونَ فِي غَيْبَةِ الْوَلِيِّ الْأَقْرَبِ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ.
قولهُ: (وَلِهَذَا) أَيْ لِهَذَا الدَّلِيلِ (لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ عَلَيْهِ)؛ لِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ لَهُ عَلَيْهِ (وَلَا يَتَوَارَثَانِ)؛ لِأَنَّ الْوَارِثَ يَخْلُفُ الْمُوَرِّثَ فِيمَا يَلِيهِ مِلْكًا وَيَدًا وَتَصَرُّفًا. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْوِرَاثَةَ لَيْسَتْ وِلَايَةً عَلَى الْمَيِّتِ بَلْ وِلَايَةٌ قَاصِرَةٌ تَحْدُثُ شَرْعًا بَعْدَ انْقِضَاءِ وِلَايَةٍ أُخْرَى فَنَفْيُ الْمُتَعَدِّيَةِ لَيْسَ نَفْيَ الْوِرَاثَةِ فَلَيْسَ نَفْيُهَا بِهَذَا الدَّلِيلِ. وَكَمَا لَا تَثْبُتُ الْوِلَايَةُ لِكَافِرٍ عَلَى مُسْلِمٍ فَكَذَا لَا تَثْبُتُ لِمُسْلِمٍ عَلَى كَافِرٍ: أَعْنِي وِلَايَةَ التَّزْوِيجِ بِالْقَرَابَةِ وَوِلَايَةَ التَّصَرُّفِ فِي الْمَالِ. قِيلَ وَيَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُسْلِمُ سَيِّدَ أَمَةٍ كَافِرَةٍ أَوْ سُلْطَانًا، وَقَائِلُهُ صَاحِبُ الدِّرَايَةِ وَنَسَبَهُ إلَى الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ قَالَ: وَلَمْ يُنْقَلْ هَذَا الِاسْتِثْنَاءُ عَنْ أَصْحَابِنَا وَاَلَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مُرَادًا وَرَأَيْتُ فِي مَوْضِعٍ مَعْزُوٍّ إلَى الْمَبْسُوطِ أَنَّ الْوِلَايَةَ بِالسَّبَبِ الْعَامِّ تَثْبُتُ لِلْمُسْلِمِ عَلَى الْكَافِرِ كَوِلَايَةِ السَّلْطَنَةِ وَالشَّهَادَةِ وَلَا تَثْبُتُ لِلْكَافِرِ عَلَى الْمُسْلِمِ فَقَدْ ذَكَرَ مَعْنَى ذَلِكَ الِاسْتِثْنَاءِ. فَأَمَّا الْفِسْقُ فَهُوَ يَسْلُبُ الْأَهْلِيَّةَ كَالْكُفْرِ، الْمَشْهُورُ أَنَّ عِنْدَنَا لَا وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْمَنْظُومَةِ. وَعَنْ الشَّافِعِيِّ اخْتِلَافٌ فِيهِ. أَمَّا الْمَسْتُورُ فَلَهُ الْوِلَايَةُ بِلَا خِلَافٍ فَمَا فِي الْجَوَامِعِ أَنَّ الْأَبَ إذَا كَانَ فَاسِقًا فَلِلْقَاضِي أَنْ يُزَوِّجَ الصَّغِيرَةَ مِنْ غَيْرِ كُفُؤٍ غَيْرِ مَعْرُوفٍ. نَعَمْ إذَا كَانَ مُتَهَتِّكًا لَا يَنْفُذُ تَزْوِيجُهُ إيَّاهَا بِنَقْصٍ وَمِنْ غَيْرِ كُفْءٍ وَسَتَأْتِي هَذِهِ.

متن الهداية:
(وَلِغَيْرِ الْعَصَبَاتِ مِنْ الْأَقَارِبِ وِلَايَةُ التَّزْوِيجِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ) مَعْنَاهُ عِنْدَ عَدَمِ الْعَصَبَاتِ، وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا تَثْبُتُ وَهُوَ الْقِيَاسُ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقول أَبِي يُوسُفَ فِي ذَلِكَ مُضْطَرِبٌ وَالْأَشْهَرُ أَنَّهُ مَعَ مُحَمَّدٍ. لَهُمَا مَا رَوَيْنَا، وَلِأَنَّ الْوِلَايَةَ إنَّمَا ثَبَتَتْ صَوْنًا لِلْقَرَابَةِ عَنْ نِسْبَةِ غَيْرِ الْكُفْءِ إلَيْهَا وَإِلَى الْعَصَبَاتِ الصِّيَانَةُ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْوِلَايَةَ نَظَرِيَّةٌ وَالنَّظَرُ يَتَحَقَّقُ بِالتَّفْوِيضِ إلَى مَنْ هُوَ الْمُخْتَصُّ بِالْقَرَابَةِ الْبَاعِثَةِ عَلَى الشَّفَقَةِ (وَمَنْ لَا وَلِيَّ لَهَا) يَعْنِي الْعَصَبَةَ مِنْ جِهَةِ الْقَرَابَةِ (إذَا زَوَّجَهَا مَوْلَاهَا الَّذِي أَعْتَقَهَا) (جَازَ) لِأَنَّهُ آخِرُ الْعَصَبَاتِ، وَإِذَا عُدِمَ الْأَوْلِيَاءُ فَالْوِلَايَةُ إلَى الْإِمَامِ وَالْحَاكِمِ لِقولهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «السُّلْطَانُ وَلِيُّ مَنْ لَا وَلِيَّ لَهُ».
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَلِغَيْرِ الْعَصَبَاتِ مِنْ الْأَقَارِبِ وِلَايَةُ التَّزْوِيجِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ مَعْنَاهُ عِنْدَ عَدَمِ الْعَصَبَاتِ) النَّسَبِيَّةِ وَالسَّبَبِيَّةِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْوِلَايَةَ تَثْبُتُ أَوَّلًا لِعَصَبَةِ النَّسَبِ عَلَى التَّرْتِيبِ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ ثُمَّ لِمَوْلَى الْعَتَاقَةِ ثُمَّ لِعَصَبَتِهِ عَلَى ذَلِكَ التَّرْتِيبِ بِالِاتِّفَاقِ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ تَثْبُتُ لِلْأُمِّ ثُمَّ لِلْبِنْتِ إذَا كَانَتْ أُمُّهَا مَجْنُونَةً ثُمَّ بِنْتِ الِابْنِ ثُمَّ بِنْتِ الْبِنْتِ ثُمَّ بِنْتِ ابْنِ الِابْنِ ثُمَّ بِنْتِ بِنْتِ الْبِنْتِ ثُمَّ الْأُخْتِ لِأَبٍ وَأُمٍّ ثُمَّ الْأُخْتِ لِأَبٍ ثُمَّ لِوَلَدِ الْأُمِّ يَسْتَوِي ذُكُورُهُمْ وَإِنَاثُهُمْ فِي ذَلِكَ ثُمَّ أَوْلَادِهِمْ. قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي التَّجْنِيسِ مُعَلِّمًا بِعَلَامَةِ فَتَاوَى الشَّيْخِ نَجْمِ الدِّينِ عُمَرَ النَّسَفِيِّ: غَابَ الْأَبُ غَيْبَةً مُنْقَطِعَةً وَلَهُ بِنْتٌ صَغِيرَةٌ فَزَوَّجَتْهَا أُخْتُهَا وَالْأُمُّ حَاضِرَةٌ يَجُوزُ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا عَصَبَةٌ أَوْلَى مِنْ الْأُخْتِ، وَلَيْسَتْ الْأُمُّ أَوْلَى مِنْ الْأُخْتِ مِنْ الْأَبِ؛ لِأَنَّهَا مِنْ قِبَلِ الْأَبِ، وَالنِّسَاءُ اللَّوَاتِي مِنْ قِبَلِ الْأَبِ لَهُنَّ وِلَايَةُ التَّزْوِيجِ عِنْدَ عَدَمِ الْعَصَبَاتِ بِإِجْمَاعٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا، وَهِيَ الْأُخْتُ وَالْعَمَّةُ وَبِنْتُ الْأَخِ وَبِنْتُ الْعَمِّ وَنَحْوُ ذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ الْمُصَنِّفُ: هَكَذَا ذُكِرَ هُنَا، وَذَكَرَ فِي غَيْرِهِ مِنْ الْمَوَاضِعِ أَنَّ الْأُمَّ أَوْلَى مِنْ الْأُخْتِ الشَّقِيقَةِ؛ لِأَنَّهَا أَقْرَبُ.اهـ. قِيلَ هَذَا يَسْتَقِيمُ فِي الْأُخْتِ لَا الْعَمَّةِ وَبِنْتِ الْعَمِّ وَبِنْتِ الْأَخِ؛ لِأَنَّهُنَّ مِنْ ذَوِي الْأَرْحَامِ وَوِلَايَتُهُنَّ مُخْتَلَفٌ فِيهَا، وَمِثْلُ مَا عَنْ الشَّيْخِ نَجْمِ الدِّينِ النَّسَفِيِّ مَنْقول فِي الْمُصَفَّى عَنْ شَيْخِ الْإِسْلَامِ خواهر زاده، وَمُقْتَضَاهُ تَقَدُّمُ الْأُخْتِ عَلَى الْجَدِّ الْفَاسِدِ وَبَعْدَ أَوْلَادِ الْأَخَوَاتِ الْعَمَّاتُ ثُمَّ الْأَخْوَالُ ثُمَّ الْخَالَاتُ ثُمَّ بَنَاتُ الْأَعْمَامِ ثُمَّ بَنَاتُ الْعَمَّاتِ، وَالْجَدُّ الْفَاسِدُ أَوْلَى مِنْ الْأُخْتِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ الْوِلَايَةُ لَهُمَا كَمَا فِي الْمِيرَاثِ، كَذَا فِي الْمُسْتَصْفَى. وَقِيَاسُ مَا صُحِّحَ فِي الْجَدِّ وَالْأَخِ مِنْ تَقَدُّمِ الْجَدِّ تَقَدُّمِ الْجَدِّ الْفَاسِدِ عَلَى الْأُخْتِ ثُمَّ مَوْلَى الْمُوَالَاةِ وَهُوَ الَّذِي أَسْلَمَ عَلَى يَدِ أَبِي الصَّغِيرَةِ وَوَالَاهُ؛ لِأَنَّهُ يَرِثُ فَتَثْبُتُ لَهُ وِلَايَةُ التَّزْوِيجِ، ثُمَّ السُّلْطَانُ ثُمَّ الْقَاضِي إذَا شَرَطَ فِي عَهْدِهِ تَزْوِيجَ الصَّغَائِرِ وَالصِّغَارِ، ثُمَّ مَنْ نَصَّبَهُ الْقَاضِي وَإِنْ لَمْ يَشْرِطْ فَلَا وِلَايَةَ لَهُ فِي ذَلِكَ وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا وِلَايَةَ لِذَوِي الْأَرْحَامِ وَلَا لِمَوْلَى الْمُوَالَاةِ، وَهُوَ الْقِيَاسُ وَرِوَايَةُ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ (وَقول أَبِي يُوسُفَ مُضْطَرِبٌ فِيهِ وَالْأَشْهَرُ أَنَّهُ مَعَ مُحَمَّدٍ) عَلَى مَا فِي الْهِدَايَةِ.
وَقَالَ فِي الْكَافِي: الْجُمْهُورُ أَنَّ أَبَا يُوسُفَ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَفِي شَرْحِ الْكَنْزِ وَأَبُو يُوسُفَ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ (لَهُمَا مَا رَوَيْنَا) يَعْنِي مِنْ قولهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْإِنْكَاحُ إلَى الْعَصَبَاتِ» أَثْبَتَ لَهُمْ الْجِنْسَ، وَلَيْسَ مِنْ وَرَاءِ الْجِنْسِ شَيْءٌ فَيَثْبُتُ لِغَيْرِهِمْ فَلَا إنْكَاحَ لِغَيْرِهِمْ.
قولهُ: (وَلِأَنَّ الْوِلَايَةَ إنَّمَا ثَبَتَتْ صَوْنًا لِلْقَرَابَةِ عَنْ نِسْبَةِ غَيْرِ الْكُفْءِ إلَيْهَا) أَيْ إلَى الْقَرَابَةِ عَلَى تَأْوِيلِ الْأَقَارِبِ أَوْ عَلَى الْمَعْنَى الْمَصْدَرِيِّ (وَإِلَى الْعَصَبَاتِ الصِّيَانَةُ) عَنْ ذَلِكَ لَا إلَى غَيْرِهِمْ مِنْ ذَوِي الْأَرْحَامِ؛ لِأَنَّهُمْ يُنْسَبُونَ إلَى قَبِيلَةٍ أُخْرَى فَلَا يَلْحَقُهُمْ الْعَارُ بِذَلِكَ (وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْوِلَايَةَ نَظَرِيَّةٌ وَالنَّظَرُ يَتَحَقَّقُ بِالتَّفْوِيضِ إلَى مَنْ هُوَ الْمُخْتَصُّ بِالْقَرَابَةِ) إذْ مُطْلَقُهَا بَاعِثٌ عَلَى الشَّفَقَةِ الْمُوجِبَةِ لِاخْتِيَارِ الْكُفْءِ وَذَوُو الْأَرْحَامِ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ فَإِنَّا نَرَى شَفَقَةَ الْإِنْسَانِ عَلَى ابْنَةِ أُخْتِهِ كَشَفَقَتِهِ عَلَى ابْنَةِ أَخِيهِ، بَلْ قَدْ تَتَرَجَّحُ عَلَى الثَّانِيَةِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ شَفَقَةَ ذَوِي الْأَرْحَامِ لَيْسَتْ كَشَفَقَةِ السُّلْطَانِ وَلَا مَنْ وَلَّاهُ فَكَانُوا أَوْلَى مِنْهُمْ. وَأَمَّا قولهُمَا إنَّمَا ثَبَتَتْ الْوِلَايَةُ صَوْنًا لِلْقَرَابَةِ عَنْ نِسْبَةِ غَيْرِ الْكُفْءِ إلَيْهَا فَالْحَصْرُ مَمْنُوعٌ، بَلْ ثُبُوتُهَا بِالذَّاتِ تَحْصِيلًا لِمَصْلَحَةِ الصَّغِيرَةِ بِتَحْصِيلِ الْكُفْءِ؛ لِأَنَّهَا بِالذَّاتِ لِحَاجَتِهَا لَا لِحَاجَتِهِمْ، وَكُلٌّ مِنْ ذَوِي الْأَرْحَامِ فِيهِ دَاعِيَةُ تَحْصِيلِ حَاجَتِهَا فَثَبَتَتْ لَهُ الْوِلَايَةُ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ، وَإِنْ ثَبَتَتْ لِغَيْرِهِ مِنْ الْعَصَبَاتِ بِكُلٍّ مِنْ حَاجَتِهَا بِالذَّاتِ إلَى ذَلِكَ وَحَاجَتِهِ وَسَتَزْدَادُ وُضُوحًا فِي مَسْأَلَةِ الْغَيْبَةِ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ إجَازَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ تَزْوِيجَ امْرَأَتِهِ بِنْتَهَا وَكَانَتْ مِنْ غَيْرِهِ عَلَى الْأَصَحِّ، وَأَمَّا إثْبَاتُ جِنْسِ وِلَايَةِ الْإِنْكَاحِ إلَى الْعَصَبَاتِ فِي الْحَدِيثِ فَإِنَّمَا هُوَ حَالَ وُجُودِهِمْ، وَلَا تُعْرَضُ لَهُ حَالَ عَدَمِهِمْ بِنَفْيِ الْوِلَايَةِ عَنْ غَيْرِهِمْ وَلَا إثْبَاتِهَا فَأَثْبَتْنَاهَا بِالْمَعْنَى وَقِصَّةِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَأَيْضًا لَا شَكَّ أَنَّهُ خُصَّ مِنْهُ السُّلْطَانُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ الْعَصَبَاتِ لِقوله: «السُّلْطَانُ وَلِيُّ مَنْ لَا وَلِيَّ لَهُ» أَوْ بِالْإِجْمَاعِ فَجَازَ تَخْصِيصُهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِالْمَعْنَى. وَهَذَا الْوَجْهُ عَلَى تَقْدِيرِ تَسْلِيمِ تَعَرُّضِ الْحَدِيثِ لِغَيْرِ الْعَصَبَاتِ بِالنَّفْيِ وَحُجِّيَّتِهِ، وَقولهُ فِي قول مُحَمَّدٍ قِيَاسٌ وَفِي قول أَبِي حَنِيفَةَ اسْتِحْسَانٌ مَعَ اسْتِدْلَالِهِ بِالْحَدِيثِ لِمُحَمَّدٍ، وَبِالْمَعْنَى الصِّرْفِ لِأَبِي حَنِيفَةَ يُنَاقَشُ فِيهِ: بِأَنَّ الِاسْتِحْسَانَ هُوَ الَّذِي يَكُونُ بِالْأَثَرِ لَا الْقِيَاسِ فَإِنَّ شَرْطَهُ أَنْ لَا يَكُونَ فِيهِ نَصٌّ. وَيُجَابُ بِأَنَّهُ عَلَى بَابِهِ، وَالْمُرَادُ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ مِنْ الْحُكْمِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ قِيَاسٌ يُقَابِلُهُ الِاسْتِحْسَانُ الَّذِي قَالَ بِهِ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَنَّ مُحَمَّدًا ظَنَّهُ خِلَافَهُ مِنْ الِاسْتِحْسَانِ فَاسْتَدَلَّ بِالْحَدِيثِ، وَقَدْ ظَهَرَ أَنْ لَا مُتَمَسِّكَ لَهُ بِهِ وَكَانَ الْأَوْلَى أَنْ يُجِيبَ بِهِ الْمُصَنِّفُ. وَحَاصِلُ بَحْثِهِ مُعَارَضَةٌ مُجَرَّدَةٌ وَهِيَ لَا تُفِيدُ ثُبُوتَ الْمَطْلُوبِ قَبْلَ التَّرْجِيحِ وَقَالُوا: الْعَصَبَاتُ تَتَنَاوَلُ الْأُمَّ؛ لِأَنَّهَا عَصَبَةٌ فِي وَلَدِ الزِّنَا وَوَلَدِ الْمُلَاعَنَةِ فَتَثْبُتُ لِأَهْلِهَا، إلَّا أَنَّ أَقَارِبَ الْأَبِ مُقَدَّمُونَ.
قولهُ: (وَإِذَا عُدِمَ الْأَوْلِيَاءُ) أَيْ كُلٌّ مِنْ الْعَصَبَاتِ وَذَوِي الْأَرْحَامِ وَمَوْلَى الْمُوَالَاةِ (فَالْوِلَايَةُ إلَى الْإِمَامِ وَالْحَاكِمِ) أَيْ الْقَاضِي بِشَرْطِ أَنْ يَكْتُبَ ذَلِكَ فِي مَنْشُورِهِ، فَلَوْ زَوَّجَ الصَّغِيرَةَ مَعَ عَدَمِ كَتْبِ ذَلِكَ فِي مَنْشُورِهِ ثُمَّ أَذِنَ لَهُ فِيهِ فَأَجَازَهُ قِيلَ لَا يَجُوزُ وَقِيلَ يَجُوزُ عَلَى الْأَصَحِّ اسْتِحْسَانًا.
فُرُوعٌ:
الْأَوَّلُ لَيْسَ لِوَلِيِّ الصَّغِيرَةِ وِلَايَةُ تَزْوِيجِهَا وَإِنْ أَوْصَى إلَيْهِ الْأَبُ بِالنِّكَاحِ إلَّا إذَا كَانَ الْمُوصِي عَيَّنَ رَجُلًا فِي حَيَاتِهِ لِلتَّزْوِيجِ فَيُزَوِّجُهَا الْوَصِيُّ بِهِ كَمَا لَوْ وَكَّلَ فِي حَيَاتِهِ بِتَزْوِيجِهَا، وَإِنْ لَمْ يُعَيِّنْ انْتَظَرَ بُلُوغَهَا لِتَأْذَنَ كَذَا قِيلَ، وَلَيْسَ بِلَازِمٍ؛ لِأَنَّ السُّلْطَانَ يُزَوِّجُهَا إلَّا إذَا كَانَ الْوَصِيُّ قَرِيبًا فَيُزَوِّجُهَا بِحُكْمِ الْقَرَابَةِ لَا الْوِصَايَةِ وَإِلَّا فَالْحَاكِمُ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ، وَفِي أُخْرَى لَهُ التَّزْوِيجُ لِقِيَامِهِ مَقَامَ الْأَبِ. قُلْنَا: إنَّمَا قَامَ مَقَامَهُ فِي الْمَالِ.
وَقَالَ مَالِكٌ: إنْ أَوْصَى إلَيْهِ فِي التَّزْوِيجِ جَازَ وَهُوَ رِوَايَةُ هِشَامٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ. الثَّانِي لَوْ زَوَّجَ الْقَاضِي الصَّغِيرَةَ الَّتِي هُوَ وَلِيُّهَا وَهِيَ الْيَتِيمَةُ مِنْ ابْنِهِ لَا يَجُوزُ. كَالْوَكِيلِ مُطْلَقًا إذَا زَوَّجَ مُوَكِّلَتَهُ مِنْ ابْنِهِ، بِخِلَافِ سَائِرِ الْأَوْلِيَاءِ؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَ الْقَاضِي حُكْمٌ مِنْهُ وَحُكْمُهُ لِابْنِهِ لَا يَجُوزُ بِخِلَافِ تَصَرُّفِ الْوَلِيِّ، ذَكَرَهُ فِي التَّجْنِيسِ مُعَلِّمَا لَهُ بِعَلَامَةِ غَرِيبِ الرِّوَايَةِ لِلسَّيِّدِ الْإِمَامِ أَبِي شُجَاعٍ، وَالْإِلْحَاقُ بِالْوَكِيلِ يَكْفِي لِلْحُكْمِ مُسْتَغْنًى عَنْ جَعْلِ فِعْلِهِ حُكْمًا مَعَ انْتِفَاءِ شَرْطِهِ، وَكَذَا إذَا بَاعَ مَالَ يَتِيمِهِ مِنْ نَفْسِهِ لَا يَجُوزُ لِكُلٍّ مِنْ الْوَجْهَيْنِ، وَالْأَوْجَهُ مَا ذَكَرْنَا، بِخِلَافِ مَا لَوْ نَصَّبَ وَصِيًّا عَلَى الْيَتِيمِ ثُمَّ اشْتَرَى مِنْهُ يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ نَائِبٌ عَنْ الْمَيِّتِ لَا الْقَاضِي. الثَّالِثُ إقْرَارُ الْوَلِيِّ عَلَى الصَّغِيرِ وَالصَّغِيرَةِ بِالتَّزْوِيجِ لَمْ يُصَدَّقْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إلَّا بِبَيِّنَةٍ أَوْ يُدْرِكُ الصَّغِيرَ فَيُصَدِّقُهُ، مَعْنَاهُ إذَا ادَّعَى الزَّوْجُ ذَلِكَ عِنْدَ الْقَاضِي وَصَدَّقَهُ الْأَبُ، وَعِنْدَهُمَا يَثْبُتُ النِّكَاحُ بِإِقْرَارِهِ. قَالَ فِي الْمُصَفَّى عَنْ أُسْتَاذِهِ يَعْنِي الشَّيْخَ حُمَيْدٍ الدِّينِ: إنَّ الْخِلَافَ فِيمَا إذَا أَقَرَّ الْوَلِيُّ فِي صِغَرِهِمَا فَإِنَّ إقْرَارَهُ مَوْقُوفٌ إلَى بُلُوغِهِمَا، فَإِذَا بَلَغَا وَصَدَّقَاهُ يَنْفُذُ إقْرَارُهُ وَإِلَّا يَبْطُلُ، وَعِنْدَهُمَا يَنْفُذُ فِي الْحَالِ وَقَالَ: إنَّهُ أَشَارَ إلَيْهِ فِي الْمَبْسُوطِ، قَالَ: هُوَ الصَّحِيحُ. وَقِيلَ الْخِلَافُ فِيمَا إذَا بَلَغَ الصَّغِيرُ وَأَنْكَرَ النِّكَاحَ فَأَقَرَّ الْوَلِيُّ، أَمَّا لَوْ أَقَرَّ بِالنِّكَاحِ فِي صِغَرِهِ صَحَّ إقْرَارُهُ، كَذَا فِي الْمُغْنِي.
وَفِي مَبْسُوطِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ: إذَا أَقَرَّ الْأَبُ عَلَى الصَّغِيرِ وَالصَّغِيرَةِ عَلَى قولهِ لَا يُصَدَّقُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ، وَإِنْ صَدَّقَهُ الزَّوْجُ فِي ذَلِكَ أَوْ الْمَرْأَةُ، وَعَلَى قولهِمَا يُصَدَّقُ مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ، فَإِنْ قِيلَ: عَلَى مَنْ تُقَامُ الْبَيِّنَةُ وَلَا تُقْبَلُ إلَّا عَلَى مُنْكِرٍ يُعْتَبَرُ إنْكَارُهُ وَالْمُنْكِرُ هُوَ الصَّبِيُّ، وَلَا عِبْرَةَ بِإِنْكَارِهِ وَالْأَبُ وَالزَّوْجُ أَوْ الْمَرْأَةُ مُقِرَّانِ؟ قُلْنَا: يُنَصِّبُ الْقَاضِي خَصْمًا عَنْ الصَّغِيرِ أَوْ الصَّغِيرَةِ حَتَّى يُنْكِرَ فَيُقِيمَ الزَّوْجُ الْبَيِّنَةَ فَيَثْبُتُ النِّكَاحُ عَلَى الصَّغِيرِ وَالصَّغِيرَةِ اهـ. كُلُّهُ مِنْ الْمُصَفَّى. وَاَلَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ قول مَنْ قَالَ إنَّ الْخِلَافَ فِيمَا إذَا بَلَغَا فَأَنْكَرَ النِّكَاحَ، أَمَّا إذَا أَقَرَّ عَلَيْهِمَا فِي صِغَرِهِمَا يَصِحُّ بِالِاتِّفَاقِ أَوْجَهُ. وَإِقْرَارُ وَكِيلِ رَجُلٍ أَوْ امْرَأَةٍ بِتَزْوِيجِهِمَا وَإِقْرَارُ مَوْلَى الْعَبْدِ بِتَزْوِيجِهِ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ، فَأَمَّا إقْرَارُهُ بِنِكَاحِ أَمَتِهِ فَنَافِذٌ اتِّفَاقًا. الرَّابِعُ فِي النَّوَازِلِ: امْرَأَةٌ جَاءَتْ إلَى قَاضٍ فَقَالَتْ أُرِيدُ أَنْ أَتَزَوَّجَ وَلَا وَلِيَّ لِي، فَلِلْقَاضِي أَنْ يَأْذَنَ لَهَا فِي النِّكَاحِ كَمَا لَوْ عَلِمَ أَنَّ لَهَا وَلِيًّا. وَبِمِثْلِهِ أَجَابَ أَبُو الْحَسَنِ السُّغْدِيُّ، وَمَا نَقَلَ فِيهِ مِنْ إقَامَتِهَا الْبَيِّنَةَ فَخِلَافُ الْمَشْهُورِ، وَمَا نَقَلَ مِنْ قول حَمَّادِ بْنِ أَبِي حَنِيفَةَ يَقول لَهَا الْقَاضِي إنْ لَمْ تَكُونِي قُرَشِيَّةً وَلَا عَرَبِيَّةً وَلَا ذَاتَ بَعْلٍ فَقَدْ أَذِنْت لَك، فَالظَّاهِرُ أَنَّ الشَّرْطَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ مَحْمُولَانِ عَلَى رِوَايَةِ عَدَمِ الْجَوَازِ مِنْ غَيْرِ الْكُفْءِ، وَأَمَّا الشَّرْطُ الثَّالِثُ فَمَعْلُومٌ. الِاشْتِرَاطِ الْخَامِسُ لَا يَمْلِكُ الْوَصِيُّ وَلَا الْأَبُ تَزْوِيجَ عَبْدِ الصَّغِيرِ، وَكَذَا تَزْوِيجُ عَبْدِهِ مِنْ أَمَتِهِ، كَذَا فِي الِاسْتِحْسَانِ وَهُوَ قول مُحَمَّدٍ وَيَمْلِكَانِ تَزْوِيجَ أَمَتِهِ.

متن الهداية:
(وَإِذَا غَابَ الْوَلِيُّ الْأَقْرَبُ غَيْبَةً مُنْقَطِعَةً جَازَ لِمَنْ هُوَ أَبْعَدُ مِنْهُ أَنْ يُزَوِّجَ) وَقَالَ زُفَرُ: لَا يَجُوزُ لِأَنَّ وِلَايَةَ الْأَقْرَبِ قَائِمَةٌ لِأَنَّهَا ثَبَتَتْ حَقًّا لَهُ صِيَانَةً لِلْقَرَابَةِ فَلَا تَبْطُلُ بِغَيْبَتِهِ، وَلِهَذَا لَوْ زَوَّجَهَا حَيْثُ هُوَ جَازَ، وَلَا وِلَايَةَ لِلْأَبْعَدِ مَعَ وِلَايَتِهِ. وَلَنَا أَنَّ هَذِهِ وِلَايَةٌ نَظَرِيَّةٌ وَلَيْسَ مِنْ النَّظَرِ التَّفْوِيضُ إلَى مَنْ لَا يُنْتَفَعُ بِرَأْيِهِ فَفَوَّضْنَاهُ إلَى الْأَبْعَدِ وَهُوَ مُقَدَّمٌ عَلَى السُّلْطَانِ كَمَا إذَا مَاتَ الْأَقْرَبُ، وَلَوْ زَوَّجَهَا حَيْثُ هُوَ فِيهِ مُنِعَ وَبَعْدَ التَّسْلِيمِ نَقول لِلْأَبْعَدِ بُعْدُ الْقَرَابَةِ وَقُرْبُ التَّدْبِيرِ وَلِلْأَقْرَبِ عَكْسُهُ فَنَزَلَا مَنْزِلَةَ وَلِيَّيْنِ مُتَسَاوِيَيْنِ فَأَيُّهُمَا عَقَدَ نَفَذَ وَلَا يُرَدُّ (وَالْغَيْبَةُ الْمُنْقَطِعَةُ أَنْ يَكُونَ فِي بَلَدٍ لَا تَصِلُ إلَيْهَا الْقَوَافِلُ فِي السَّنَةِ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً) وَهُوَ اخْتِيَارُ الْقُدُورِيِّ. وَقِيلَ أَدْنَى مُدَّةِ السَّفَرِ لِأَنَّهُ لَا نِهَايَةَ لِأَقْصَاهُ وَهُوَ اخْتِيَارُ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ. وَقِيلَ: إذَا كَانَ بِحَالٍ يَفُوتُ الْكُفْءُ الْخَاطِبُ بِاسْتِطْلَاعِ رَأْيِهِ، وَهَذَا أَقْرَبُ إلَى الْفِقْهِ لِأَنَّهُ لَا نَظَرَ فِي إبْقَاءِ وِلَايَتِهِ حِينَئِذٍ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَقَالَ زُفَرُ: إذْ غَابَ الْوَلِيُّ الْأَقْرَبُ غَيْبَةً مُنْقَطِعَةً لَا يُزَوِّجُهَا أَحَدٌ حَتَّى تَبْلُغَ) بِنَاءٌ عَلَى أَنَّهُ عَلَى وِلَايَتِهِ؛ لِأَنَّ الْوِلَايَةَ ثَبَتَتْ حَقًّا لَهُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي دَلِيلِ مُحَمَّدٍ وَقَدَّمْنَا جَوَابَهُ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: يُزَوِّجُهَا السُّلْطَانُ لَا الْأَبْعَدُ. وَعِنْدَنَا يُزَوِّجُهَا الْأَبْعَدُ؛ لِأَنَّ هَذِهِ وِلَايَةٌ نَظَرِيَّةٌ تَثْبُتُ نَظَرًا لِلْيَتِيمَةِ لِحَاجَتِهَا إلَيْهَا، وَلَا نَظَرَ فِي التَّفْوِيضِ إلَى مَنْ لَا يُنْتَفَعُ بِرَأْيِهِ، وَهَذَا لِأَنَّ التَّفْوِيضَ إلَى الْأَقْرَبِ لَيْسَ لِكَوْنِهِ أَقْرَبَ بَلْ لِأَنَّ فِي الْأَقْرَبِيَّةَ زِيَادَةُ مَظِنَّةٍ لِلْحِكْمَةِ وَهِيَ الشَّفَقَةُ الْبَاعِثَةُ عَلَى زِيَادَةِ إتْقَانِ الرَّأْيِ لِلْمُوَلِّيَةِ، فَحَيْثُ لَا يُنْتَفَعُ بِرَأْيِهِ أَصْلًا سُلِبَتْ إلَى الْأَبْعَدِ، إذْ لَوْ أَبْقَيْنَا وِلَايَةَ الْأَقْرَبِ أَبْطَلْنَا حَقَّهَا وَفَاتَتْ مَصْلَحَتُهَا. أَمَّا الْوَلِيُّ فَحَقُّهُ فِي الصِّيَانَةِ عَنْ غَيْرِ الْكُفْءِ يَكُونُ مُقْتَضِيًا لِإِثْبَاتِ وِلَايَةِ الْفَسْخِ إذَا وَقَعَ بِفِعْلِهَا مِنْ غَيْرِ كُفْءٍ فَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى إثْبَاتِ وِلَايَةِ التَّزْوِيجِ لَهُ، فَحَيْثُ ثَبَتَتْ فَإِنَّمَا هِيَ لِحَاجَتِهَا حَقًّا لَهَا. وَلَوْ سَلَّمَ فَفَوَاتُ حَقِّهِ بِسَبَبٍ مِنْ جِهَتِهِ وَهُوَ غَيْبَتُهُ عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ لَهُ لَا يَفُوتُ إذْ يَخْلُفُهُ فِيهِ الْوَلِيُّ الْأَبْعَدُ؛ لِأَنَّهُ تِلْوُهُ فِي نَفْيِ غَيْرِ الْكُفْءِ وَالِاحْتِرَاسِ عَنْ التَّلَطُّخِ بِنِسْبَتِهِ فَتَضَافَرَا عَلَى مَقْصُودٍ وَاحِدٍ فَوَجَبَ الْمَصِيرُ إلَى مَا قُلْنَا وَظَهَرَ وَجْهُ تَقْدِيمِهِ عَلَى السُّلْطَانِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ سُلِبَتْ وِلَايَتُهُ بِمَوْتِهِ كَانَ الْأَبْعَدُ أَوْلَى مِنْ السُّلْطَانِ، فَكَذَا إذَا سُلِبَتْ بِعَارِضٍ آخَرَ. فَالْحَاصِلُ فِي عِلَّةِ تَقْدِيمِهِ عَلَى السُّلْطَانِ لَا يَخْتَلِفُ بِالْمَوْتِ وَغَيْرِهِ.
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «السُّلْطَانُ وَلِيُّ مَنْ لَا وَلِيَّ لَهُ» وَمَا يُقَالُ مِنْ أَنَّهُ يُنْتَفَعُ بِرَأْيِهِ بِالرَّسُولِ وَبِالْكِتَابِ وَكِتَابِ الْخَاطِبِ إلَيْهِ حَيْثُ هُوَ فَخِلَافُ الْمُعْتَادِ فِي الْغَائِبِ وَالْخَاطِبِ فَلَا يُفَرَّعُ الْفِقْهُ بِاعْتِبَارِهِ وَقَدْ لَا يُعْرَفُ مَكَانُهُ، وَنَظِيرُهُ الْحَضَانَةُ وَالتَّرْبِيَةُ يُقَدَّمُ فِيهِ الْأَقْرَبُ، فَإِذَا تَزَوَّجَتْ الْقُرْبَى وَثَبَتَ مَظِنَّةُ شُغْلِهَا بِالزَّوْجِ صَارَتْ لِلْبُعْدَى، وَكَذَا النَّفَقَةُ فِي مَالِ الْأَقْرَبِ فَإِذَا انْقَطَعَ ذَلِكَ لِبُعْدِ مَالِهِ وَجَبَتْ فِي مَالِ الْأَبْعَدِ.
قولهُ: (وَلَوْ زَوَّجَهَا حَيْثُ هُوَ فِيهِ مُنِعَ) جَوَابٌ عَنْ اسْتِدْلَالِ زُفَرَ عَلَى قِيَاسِ وِلَايَتِهِ حَالَ غَيْبَتِهِ بِأَنَّهُ لَوْ زَوَّجَهَا حَيْثُ هُوَ صَحَّ اتِّفَاقًا فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَسْلُبْ الْوِلَايَةَ، شَرْعًا بِغَيْبَتِهِ. أَجَابَ بِمَنْعِ صِحَّةِ تَزْوِيجِهِ. قَالَ فِي الْمُحِيطِ: لَا رِوَايَةَ فِيهِ، وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَجُوزَ لِانْقِطَاعِ وِلَايَتِهِ.
وَفِي الْمَبْسُوطِ: لَا يَجُوزُ، وَلَوْ سَلَّمَ فَلِأَنَّهَا انْتَفَعَتْ بِرَأْيِهِ وَهَذَا تَنَزُّلٌ، وَوَجْهُهُ أَنَّ لِلْأَبْعَدِ قُرْبَ التَّدْبِيرِ وَلِلْأَقْرَبِ قُرْبَ الْقَرَابَةِ فَنَزَلَا مَنْزِلَةَ وَلِيَّيْنِ فِي دَرَجَةٍ وَاحِدَةٍ، فَأَيُّهُمَا عَقَدَ جَازَ؛ لِأَنَّهُ أَمَسُّ بِالْمَعْنَى الْمُعَلَّقِ بِهِ ثُبُوتُ الْوِلَايَةِ وَسَلْبُهَا. وَمَعْنَاهُ أَنَّ سَلْبَ الْوِلَايَةِ إنَّمَا كَانَ لِسَلْبِ الِانْتِفَاعِ بِرَأْيِهِ، فَلَمَّا زَوَّجَهَا مِنْ حَيْثُ هُوَ ظَهَرَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَا عَلَّقَ بِهِ سَلْبَ الْوِلَايَةِ ثَابِتًا بَلْ الْقَائِمُ مَنَاطُ ثُبُوتِهَا.
وَفِي شَرْحِ الْكَنْزِ: لَا رِوَايَةَ فِيهِ، فَلَنَا أَنْ نَمْنَعَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ جَازَ عَقْدُهُ حَيْثُ هُوَ لَأَدَّى إلَى مَفْسَدَةٍ؛ لِأَنَّ الْحَاضِرَ لَوْ زَوَّجَهَا بَعْدَ تَزْوِيجِ الْغَائِبِ لِعَدَمِ عِلْمِهِ لَدَخَلَ بِهَا الزَّوْجُ وَهِيَ فِي عِصْمَةِ غَيْرِهِ، وَمَا قَالُوهُ فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ يَدُلُّ عَلَيْهِ وَهُوَ أَنَّ الْغَائِبَ لَوْ كَتَبَ لِيُقَدِّمَ رَجُلًا فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ فَلِلْأَبْعَدِ مَنْعُهُ، وَلَوْ كَانَتْ لَهُ وِلَايَةٌ بَاقِيَةٌ لَمَا كَانَ لَهُ مَنْعُهُ، كَمَا لَوْ كَانَ حَاضِرًا وَقَدَّمَ غَيْرَهُ. وَقَدْ اُسْتُفِيدَ مِمَّا ذَكَرْنَا أَنَّ الْوَلِيَّيْنِ إذَا اسْتَوَيَا كَأَخَوَيْنِ شَقِيقَيْنِ أَيُّهُمَا زَوَّجَ نَفَذَ وَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ قَالَ: لَا يَجُوزُ مَا لَمْ يَجْتَمِعَا عَلَى الْعَقْدِ وَالْعَمَلُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، فَإِنْ زَوَّجَهَا كُلٌّ مِنْهُمَا فَالصِّحَّةُ لِلسَّابِقِ، فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ السَّابِقُ أَوْ وَقَعَا مَعًا بَطَلَا لِعَدَمِ الْأَوْلَوِيَّةِ بِالتَّصْحِيحِ، وَلَوْ زَوَّجَهَا أَبُوهَا وَهِيَ بِكْرٌ بَالِغَةٌ بِأَمْرِهَا وَزَوَّجَتْ هِيَ نَفْسَهَا مِنْ آخَرَ فَأَيُّهُمَا قَالَتْ هُوَ الْأَوَّلُ فَالْقول قولهَا وَهُوَ الزَّوْجُ؛ لِأَنَّهَا أَقَرَّتْ بِمِلْكِ النِّكَاحِ لَهُ عَلَى نَفْسِهَا وَإِقْرَارُهَا حُجَّةٌ تَامَّةٌ عَلَيْهَا، وَإِنْ قَالَتْ لَا أَدْرِي الْأَوَّلَ وَلَا يُعْلَمُ مِنْ غَيْرِهَا فُرِّقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُمَا، وَكَذَا لَوْ زَوَّجَهَا وَلِيَّانِ بِأَمْرِهَا.
قولهُ: (وَلَا يُرَدُّ إلَخْ) يُفِيدُ أَنَّهُ لَوْ حَضَرَ الْأَقْرَبُ بَعْدَ عَقْدِ الْأَبْعَدِ لَا يُرَدُّ عَقْدُهُ وَإِنْ عَادَتْ وِلَايَتُهُ بِعَوْدِهِ.
قولهُ: (وَالْغَيْبَةُ الْمُنْقَطِعَةُ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعٍ لَا تَصِلُ إلَيْهِ الْقَوَافِلُ فِي السَّنَةِ إلَّا مَرَّةً وَهُوَ اخْتِيَارُ الْقُدُورِيِّ) وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ مِنْ جَابْلَقَا إلَى جَابْلَسَا: وَهُمَا قَرْيَتَانِ إحْدَاهُمَا بِالْمَشْرِقِ وَالْأُخْرَى بِالْمَغْرِبِ، وَهَذَا رُجُوعٌ إلَى قول زُفَرَ، وَإِنَّمَا ضَرَبَ هَذَا مَثَلًا، وَعَنْهُ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى مِنْ بَغْدَادَ إلَى الرَّيِّ، وَهَكَذَا عَنْ مُحَمَّدٍ، وَفِي رِوَايَةٍ مِنْ الْكُوفَةِ إلَى الرَّيِّ. وَمِنْ الْمَشَايِخِ مَنْ قَالَ: حَدُّ الْغَيْبَةِ الْمُنْقَطِعَةِ أَنْ يَكُونَ مُتَحَوِّلًا مِنْ مَوْضِعٍ إلَى مَوْضِعٍ فَلَا يُوقَفُ عَلَى أَثَرِهِ، أَوْ يَكُونُ مَفْقُودًا لَا يُعْرَفُ خَبَرُهُ. وَقِيلَ إذَا كَانَ فِي مَوْضِعٍ يَقَعُ الْكِرَاءُ إلَيْهِ دَفْعَةً وَاحِدَةً فَلَيْسَتْ غَيْبَةً مُنْقَطِعَةً أَوْ بِدَفَعَاتٍ فَمُنْقَطِعَةٌ، وَقِيلَ أَدْنَى مُدَّةِ السَّفَرِ؛ لِأَنَّهُ لَا نِهَايَةَ لِأَقْصَاهُ وَهُوَ اخْتِيَارُ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْهُمْ الْقَاضِي الْإِمَامُ أَبُو عَلِيٍّ النَّسَفِيُّ وَسَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ أَبُو عِصْمَةَ الْمَرْوَزِيِّ وَابْنُ مُقَاتِلٍ الرَّازِيّ وَأَبُو عَلِيٍّ السُّغْدِيُّ وَأَبُو الْيُسْرِ وَالصَّدْرُ الشَّهِيدُ، قَالُوا: وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى.
وَقَالَ الْإِمَامُ السَّرَخْسِيُّ فِي مَبْسُوطِهِ: وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ إذَا كَانَ فِي مَوْضِعٍ لَوْ انْتَظَرَ حُضُورَهُ وَاسْتِطْلَاعَ رَأْيِهِ يَفُوتُ الْكُفْءُ، وَعَنْ هَذَا قَالَ قَاضِي خَانْ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: لَوْ كَانَ مُخْتَفِيًا فِي الْمَدِينَةِ بِحَيْثُ لَا يُوقَفُ عَلَيْهِ تَكُونُ غَيْبَتُهُ مُنْقَطِعَةً، وَهَذَا حَسَنٌ؛ لِأَنَّهُ النَّظَرُ.
وَفِي النِّهَايَةِ: عَلَيْهِ أَكْثَرُ الْمَشَايِخِ مِنْهَا الْقَاضِي الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ.
وَفِي شَرْحِ الْكَنْزِ: أَكْثَرُ الْمُتَأَخِّرِينَ عَلَى أَدْنَى مُدَّةِ السَّفَرِ، وَلَا تَعَارُضَ بَيْنَ أَكْثَرِ الْمُتَأَخِّرِينَ وَأَكْثَرِ الْمَشَايِخِ وَالْأَشْبَهُ بِالْفِقْهِ قول أَكْثَرِ الْمَشَايِخِ.

متن الهداية:
(وَإِذَا اجْتَمَعَ فِي الْمَجْنُونَةِ أَبُوهَا وَابْنُهَا فَالْوَلِيُّ فِي نِكَاحِهَا ابْنُهَا فِي قول أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ أَبُوهَا) لِأَنَّهُ أَوْفَرُ شَفَقَةً مِنْ الِابْنِ. وَلَهُمَا أَنَّ الِابْنَ هُوَ الْمُقَدَّمُ فِي الْعُصُوبَةِ، وَهَذِهِ الْوِلَايَةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَيْهَا وَلَا مُعْتَبَرَ بِزِيَادَةِ الشَّفَقَةِ كَأَبِي الْأُمِّ مَعَ بَعْضِ الْعَصَبَاتِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَإِذَا اجْتَمَعَ فِي الْمَجْنُونَةِ) جُنُونًا أَصْلِيًّا بِأَنْ بَلَغَتْ مَجْنُونَةً أَوْ عَارِضِيًّا بِأَنْ طَرَأَ الْجُنُونُ بَعْدَ الْبُلُوغِ (أَبُوهَا) أَوْ جَدُّهَا (مَعَ ابْنِهَا فَالْوَلِيُّ فِي تَزْوِيجِهَا ابْنُهَا فِي قول أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ أَبُوهَا) وَقَالَ زُفَرُ فِي الْعَارِضِيِّ: لَا يُزَوِّجُهَا أَحَدٌ؛ لِأَنَّ الْوِلَايَةَ زَالَتْ عِنْدَ بُلُوغِهَا عَاقِلَةً فَلَا تَرْجِعُ وَلَيْسَ بِشَيْءٍ فَلَا تَرْجِعُ عِنْدَ وُجُودِ مَنَاطِ الْحَجْرِ بَلْ هِيَ أَحْوَجُ إلَى الْوِلَايَةِ بِالْجُنُونِ مِنْهَا إلَيْهَا بِالصِّغَرِ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَيْهَا فِي الصِّغَرِ لِتَحْصِيلِ الْكُفْءِ وَفِي الْجُنُونِ لِذَلِكَ وَدَفْعِ الشَّهْوَةِ وَالْمُمَارَسَةِ، وَكَذَا الْمَجْنُونُ يَجْتَمِعُ فِيهِ أَبُوهُ وَابْنُهُ أَوْ جَدُّهُ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رِوَايَةٌ أُخْرَى: أَيُّهُمَا مِنْ الْأَبِ وَالِابْنِ زَوَّجَ جَازَ، وَهِيَ رِوَايَةُ الْمُعَلَّى جَعَلَهُمَا فِي مَرْتَبَةٍ، وَلَا يَبْعُدُ إذْ فِي الِابْنِ قُوَّةُ الْعُصُوبَةِ وَفِي الْأَبِ زِيَادَةُ الشَّفَقَةِ فَفِي كُلٍّ مِنْهُمَا جِهَةٌ. (قولهُ) فِي وَجْهِ قولهِمَا (وَهَذِهِ الْوِلَايَةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْعُصُوبَةِ) بِالنَّصِّ السَّابِقِ، وَالِابْنُ هُوَ الْمُقَدَّمُ فِي الْعُصُوبَةِ شَرْعًا لِانْفِرَادِهِ بِالْأَخْذِ بِالْعُصُوبَةِ عِنْدَ اجْتِمَاعِهِ مَعَهُ. ثُمَّ إذَا زَوَّجَ الْمَجْنُونَةَ أَوْ الْمَجْنُونَ الْكَبِيرَيْنِ أَبُوهُمَا أَوْ جَدُّهُمَا لَا خِيَارَ لَهُمَا إذَا أَفَاقَا لِتَمَامِ شَفَقَتِهِمَا، وَلَوْ زَوَّجَ الرَّجُلُ الْمَجْنُونُ أَوْ الْمَرْأَةُ ابْنَهُمَا فَلَا رِوَايَةَ فِيهِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَكُونَ لَهُمَا خِيَارٌ؛ لِأَنَّهُ يُقَدَّمُ عَلَى الْأَبِ وَالْجَدِّ وَلَا خِيَارَ لَهُمَا فِي تَزْوِيجِهِمَا فَالِابْنُ أَوْلَى.